مركز الثورة التونسية الذي لم يغنمْ غير الخيبة والحرمان
واجهت الاستبداد والظلم وحاربت القمع والديكتاتورية لكنها الآن محبطة من “العهد الجديد”، سيدي بوزيد أو كما يطلق عليهما بمركز الثورة، قادت ثورة الياسمين أملا في حاضر وغد أفضل، لكنها لم تغنم غير الخيبة والتشاؤم واليأس والحرمان، مشاعر إن اختلطت واجتمعت تكون نذر احتقان اجتماعي متواصل.
هنا في سيدي بوزيد، الولاية التي قدحت شرارة الثورة وكان لها فضل كبير في نهاية نظام ديكتاتوري حكم البلد على مدى أكثر من 20 سنة، الأوضاع تتدهور باطراد وآلام الحرمان لدى متساكنيها تتعمق شيئا فشيئا ومشاعر الإحباط ترتفع، فرياح التغيير التي انطلقت منها وفتحت الباب على مصراعية لعدة أسماء للتداول والتعاقب على الحكم استثنتها ليبقى وضعها على حاله في انتظار رد جميل قد لا يأت.
يشير بوراوي الجلالي/ 43 سنة / سائق سيارة أجرة أن الثورة التي بدأت من بلدتهم وغيرت وجه العالم العربي لم تغير سيدي بوزيد ولم تزد إلا من مآسيهم ومن تعميق مشاكلهم رغم وعود المسؤولين لهم بتحسين ظروفهم والنهوض بأوضاعهم، وهذا متوقع حسب رأيه في دولة لم يفارقها الفساد والمحسوبية.
ويتحدث الجلالي لـصحيفة الكترونيّة أمريكيّة ناطقة بالعربيّة قائلا ” مثلما ترين بعينيك، مازلنا على نفس الهموم والمشاكل وعلى نفس الاوضاع، نعيش هنا تهميش اجتماعي، لا استثمار عمومي ولا خاص، بنى تحتية متردية ومهترئة، خدمات صحية غائبة، لا فرص عمل ولا فضاءات ترفيهية ولا حتى رد اعتبار لنا، لم نر إلا وعود تبيّن لاحقا أن كلها أوهام وكلام فارغ “.
ولم تفلح الوعود الكبيرة التي تلقاها أهالي بلدة سيدي بوزيد وساقتها الأحزاب السياسية أثناء الحملات الانتخابية خاصة من الحزب الحاكم في تحريك مؤشرات التنمية وتغيير الأوضاع إلى الأحسن، فرغم أن محافظة سيدي بوزيد وحسب الإحصائيات انتخبت بكثافة حزبي النهضة الاسلامية ونداء تونس وعلقوا أمالهم عليهما، إلا أن النتيجة كانت سلبية ودون انتضاراتهم.
وتعلق عائشة النصري / 50 سنة / بائعة ملابس مستعملة في السوق الاسبوعية بسيدي بوزيد وكلها حسرة بأن وعود السياسيين كانت “زائفة، وأن الانجازات الخاصة بتحسين الخدمات وكذلك المشاريع التي تعهدوا بإنشائها لتشغيل المعطلين أصبحت في خبر كان”، مشيرة إلى أنهم إلى حد اليوم لم يلمسوا أي أثر لتدخل السلطات على أرض الواقع.
وتضيف عائشة ” يا بنتي سئمنا من المسؤولين ومن أحاديثهم الفارغة ووعودهم وأمانيهم الزائفة وفقدنا ثقتنا فيهم منذ زمن، لم يلتفتوا إلينا منذ وصولهم للحكم ولا لمطالبنا ومشاغلنا، لكن أنا أشكو همومي ومشاكلي وحزني إلى الله وحده لأن الفرج عنده وليس عند عباده”.
وتشير إحصائيات المعهد التونسي للإحصاء الأخيرة أن عدد سكان سيدي بوزيد، يقدر بنحو 430 ألف نسمة، وترتفع نسبة الأمية في الولاية إلى حدود 29.2 بالمائة، فيما تقدر نسبة البطالة بـ 17.7 بالمائة ويمثل خريجو الجامعات ومؤسسات التعليم العالي 57.1 من إجمالي العاطلين.
وداخل هذه البلدة التي تتوسط الجمهورية التونسية أول ما يلفت انتباه الزائر العدد الكبير من المقاهي المنتشرة في كافة الشوارع والجدران التي لا تزال تحمل الشعارات المنادية بالتشغيل والتنمية والعدالة والوحدة الوطنية، إضافة إلى أسماء شهداء الثورة المدونة والموثقة على جدران بعض الإدارات العمومية.
وفي الساحة التي أحرق فيها البوعزيزي نفسه، انتشرت نصب الباعة المتجولين بطريقة لافتة، فمنهم من اختار بيع الخضار والغلال والبعض الآخر فضل تجارة الملابس المهربة أو الأكلات الخفيفة مستفيدين من مناخ الحرية ومن غياب المضايقات من قبل أعوان شرطة البلدية، على غرار جمال الرابحي /32 سنة / أحد الشباب الذي دفعته البطالة والفراغ اليومي إلى الوقوف في الطريق العام لبيع منتوجاته حتى يوفر لنفسه حياة كريمة بالحلال.
ويقول إنه حاصل على ديبلوم في شعبة التاريخ، انتظر سنوات طويلة لكنه لم يجد خلالها فرصة عمل بمؤهله، فعمل لمدة سنة ونصف في أحد نزل مدينة سوسة قبل أن يتم التخلي عليه بعد تراجع مؤشرات السياحة في البلاد التي تضررت من الأعمال الإرهابية.
يتحدث عن وضعيته قائلا “ها أنا أبيع الغلال على هذه العربة على قارعة الطريق، من أجل تلبية احتياجات زوجتي وابنتي الرضيعة، فهنا فرص التشغيل ضئيلة جدا لذلك لا بد من التحايل على مصاعب الدنيا وتدبّر عمل يضمن لك الاستمرار في الحياة، فلا أمل من انتظار تدخل السلط وعلى كل فرد أن يعول على نفسه “.
ولم تعرف ولاية سيدي بوزيد مشاريع تنموية كبيرة بعد الثورة باستثناء إنشاء مصنع وحيد للحليب نجح في تشغيل حوالي 300 عامل، رغم الوعود التي قطعها عدد من المسؤولين بجلب مستثمرين وإحداث مركبات صناعية، ليبقى اقتصاد سيدي بوزيد قائما على الزراعة والتي تعد من أكثر القطاعات المشغلة في المنطقة.
وتمثل اليد العاملة النسائية القوى العاملة الفلاحية الأكثر، ورغم صعوبة العمل والأجور الضعيفة والتمييز المسلط عليهن إضافة الى عدم تطبيق قانون الشغل وعدم تمتعهن بالتغطية الاجتماعية، فإن الأوضاع الاجتماعية الصعبة أجبرت فاطمة السعيدي/49 سنة / على الخروج للعمل لتغطية مصاريف أسرتها المتكونة من 4 أفراد أغلبهم في المدارس.
يبدأ يوم فاطمة في الخامسة صباحا وبعد إعداد مائدة فطور الصباح وتحضير وجبة الغداء وترتيب أمور البيت تخرج من بيتها على الساعة السادسة والنصف إلى العمل الذي تبدأه على الساعة السابعة صباحا لينتهي عند الرابعة بعد الزوال ثم تعود للمنزل للانشغال بباقي الأعمال المنزلية.
وتصف فاطمة عملها بأنه عمل شاق ومتعب لكنها اعتادت عليه وأصبح شيئا روتينيا بالنسبة لها، فهي تشتغل في هذا المجال منذ أكثر من 10 سنوات صيفا وشتاء وفي كل المواسم الفلاحية، دفعتها حادثة وفاة زوجها وغياب معيل لأسرتها إلى امتهان هذا العمل، لأن هذا هو قدرها وحظها من الحياة على حد تعبيرها.