من أسباب فشل الحكومات : التّعويل على “المكلّفين بلا مهمّات”
كافّة المؤشّرات، وبشهادة قادة الدّولة أنفسهم والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين، تكشف أنّ بلادنا لم تتخطّ بعد دائرة الهشاشة وما زالت في مربّع الخطر، والأيادي في تونس على القلوب خوفا من الانزلاق أكثر فأكثر نحو الهاوية كيف لا والدّولة تعاني عجزا عامّا في ميزانيتها وفي ميزانها الجاري والتّجاري معا بشكل أصبح فيه الاختلال في الماليّة العموميّة هو الطّبيعة وصار العكس وضعيّة شاذّة، هذا الواقع الذي يتهدّد سيادة الدولة ويجعل شعبها، ودون أن تعمل يده أو ساقه، مخنوقا مطبقا عليه وربّما يدفع قسرا إلى القبول بمنطق وواقع جديدين يبيحان عودة الاستعمار المقيت للوطن، ولو بأسلوب مقنّع وأشكال مختلفة عن المألوف القديم.
نحن اليوم نكابد مديونيّة تتأرجح بين 47 إلى 53 بالمائة، وفي الأشهر التي تزامنت مع مغادرة حكومة المهدي جمعة اقترضنا 2 ملياري دينار بتسهيلات وضمانات من البنك وصندوق النّقد الدوليين، ونحن اليوم نقترض ما يناهز تلك القيمة الماليّة الضخمة، وهي أموال ستخصّص نسبة هامّة منها لا محالة في الزّيادة في الأجور وخاصّة في إضفاء ميزانيّات جديدة لأصحاب الامتيازات في مواقع شتّى، بمعنى أنّها لن تنفق كما يراد لها في النهوض بالتّنمية ولا في خلق موارد الرزق والتشغيل ولا في تحسين البنية التحتيّة المهدودة ولن تنتفع بها الخدمات الصحّيّة ولا النّقل ولا التّعليم، ونحن في كلّ مرّة نهرول إلى فتح الباب لمزيد الاقتراض والتّداين، فالحال “واقف” كما يقال والآفاق مازالت على ما هي عليه من الانسداد ما تؤكّده المعطيات وما تفرضه المستجدّات والمعضلات المتراكمة.
ضروري أن نلتفت إلى الأموال الطّائلة المهدورة التي تكابد المجموعة الوطنيّة من خسارتها في ما لا يعني وتعاني من صرفها في ما لا يثمر ولا يأتي أكله ولا يرجع على البلد وأهله بخير، ضروري اليوم أن نعي جيّدا ما يعنيه العجز المتراكم للمؤسسات العموميّة الذي بلغ سيله الزّبى وعلا سقفه حتّى ارتفع إلى ما يزيد عن 3 آلاف مليون دينار بما يناهز 10/1 الميزانيّة العامّة للدّولة فيما تسجّل الصّناديق الاجتماعيّة حاليّا، ووفق التقديرات الرسميّة، عجزا يقدّر بـ 400 مليون دينار مرشّحة إلى بلوغ 700 مليون دينار بموفي 2015 إذا لم يتمّ التحكّم في نزيف أسبابه، هذا العجز الذي أصابت مضرّته أغلب شرائح المضمونين الاجتماعيين، سواء المزاولين أو المتقاعدين، وأصابت العلّة الخدمات المسداة وعطّلت قسما كبيرا منها، بشكل دفع فئة واسعة من “المضمونين” في استمراريّة هذه الخدمات مستقبلا إذا تواصل الأمر مثلما ما هو عليه، والخوف كلّ الخوف أن تفلس هذه الصناديق والطامّة الكبرى التي يمكن أن تنزل بمن دأبت عليهم النّوازل.
ويعلم التّونسي، اليوم مهما تباين مستواه المعرفي أو الطّبقي الاجتماعي أو الفئوي السّياسي والجهوي أيضا، الوضعيّة التي تردّت فيها الصّناديق الاجتماعية في تونس، وهي التي تعيش على حافة الإفلاس، كما يعلم التّونسيّون إلى أيّ حدّ وصل عجز مؤسّسات عموميّة لها وزنها مثل “الشركة التونسيّة للكهرباء والغاز “الستاغ” و”الخطوط الجويّة التونسيّة” ومؤسسة التلفزة التونسيّة” وغيرها من المنشآت ذات الصّبغة العموميّة سواء الموصوفة بـ”الربحيّة” أو المصنّفة في خانة “الوظيفة العموميّة”، “كلّها في الهوى سواء” ولا شيء غير الشّعارات البرّاقة وفي الحقيقة مزيدا من العجز والإفلاس والدّيون المتراكمة، وهو ما أكدته، مرارا وتكرارا، جهات رسميّة وحكوميّة في أكثر من لقاء إعلامي أو ندوة صحفيّة.
وهذا غيض من فيض الوضعيّة الكارثيّة التي تعيشها تونس وأهلها اليوم، والأسباب وإن تعدّدت وتنوّعت فإنّ المضحك والمبكي فيها هو الاستمرار على نفس النهج المعوجّ القديم السّقيم الذي ثبت وهنه وانكشف عهنه، وهو التّعويل على من لا يعوّل عليهم وإناطة الأمور لغير أهلها فالتّعيينات التي تتناهى إلى المسامع من وقت إلى آخر في مناصب لها قدرها ووزنها وشأنها في الإدارة والمهمّات القياديّة والسياسيّة، إلاّ في ما قلّ وندر، هي تعيينات مهلكة ومضرّة بقدر ما تنفع وتضيف الإضافة المنشودة، ولا شكّ أنّ تعيينات قديمة ما أنزل الله بها من سلطان حريّ في هذه الظرفيّة الدقيقة أن تراجع على اعتبار ما تحتاجه تونس من خبرات الكفاءات الحقيقيّة في كلّ القطاعات، وبالنّظر إلى ما تحتاجه البلاد من تجارب وأهليّة يتمّ الاستئناس بها حتّى نتمكّن من التدحرج من عنق الزجاجة وإيجاد متنفّس من الأزمات الخانقة التي تردّينا فيها.
ولا يمكننا الخروج من المأزق ونحن نلوك نفس العلكة القديمة دون أن نلفظها رغم تآكلها وتقلّصها و تغيّر طعمها إلى الرّداءة، هذه العلكة تتمثّل في أنّ “التّعويل” ما زال يشمل في غالب الأمر “كفاءات” من ماركة غير كفئة تستوجب إسنادها بكفاءات تبصّرها بالطّريق ممّا يعني أنّ قدرنا أن نستمرّ في دفع فاتورة ثقيلة من المنح والامتيازات قيمتها الشهريّة بمئات المليارات يدفعها الشعب الكريم من جيوب أبنائه الخاوية، يدفعها بمعيشة ضنكة سماتها غلاء الأسعار وتدهور المقدرة الشرائيّة، ومخلفاتها اقتراض وتداين و”سلفات” و”كمبيالات”.
تصرف مليارات الدّنانير وأخرى تذهب جفاء لأغراض لا تفيد ولا تنفع ولم يلمسها المواطن في معيشته سواء كان شغيلا أو عاطلا، تلميذا أو طالبا، أو خريج جامعة أو حامل دبلوم تقني أو مهني، فواضل من ميزانيّات الأعوام الفارطة خاصّة السّنوات الأولى التي أعقبت الثورة، لا يعرف أين ذهبت وأين تبخّرت، ميزانيّات مرصودة لمشاريع أنجز نزر قليل منها وأخرى أنجز منها بعضها وتوقّف إنجاز القسم المتبقّي منها ومشاريع أخرى احتسبت ورصدت لها الأموال لكنّها ما زالت معطّلة ويجهل الرأي العامّ عن وجودها ووجهتها.
العديد من المؤسّسات الوطنيّة قدّر الله وشاء أن تنظّم المناظرات العامّة وتفتحها للجميع لكن قدّر الله أيضا أنّ لا تفتح التّوظيف الحقيقي للجميع وهو واقع وليس رأي، واقع تثبته طرق الإنتدابات التي يقول الخبراء ويجمع المختصّون على أنّها يجب أن تكون شفّافة وتشمل جميع أبناء البلاد دون ميز أو استثناء، كما يجب أن تبتعد قدر الإمكان عن دائرة العلاقات وأساليب التّوريث والمحاباة والمحسوبيّة التي كانت قائمة وثابتة قبل قيام الثورة، وتبعا لما تقدّم فإنّ النتائج السلبيّة والكارثيّة التي ما ننفكّ نسجّلها في شتّى المجالات وكافّة القطاعات هي بذاتها خلاصات طبيعيّة للتّعويل على الموارد البشريّة غير المناسبة.
بالمحصلة، وبصراحة يفرضها المنطق والعقل تونس “لن تنجح” بالتّعويل على “المكلّفين بلا مهمّات” ولا على جماعة المحاباة والمحسوبيّة والولاءات والعلاقات؟؟؟ “والعرض أمام الجميع”.