تجارب تنموية ناجحة : كوريا الجنوبية، عوامل النجاح وتحديات المستقبل
بفعل عقود من النمو الاقتصادي أصبحت كوريا الجنوبية قوة عالمية من الحجم المتوسط وتحولت من بلد كان يعيش على المساعدات إلى بلد مانح لها، وذلك باعتمادها على التعليم والتدريب لتحسين القدرة على المنافسة وتحسين الإنتاجية، ولعبت الدولة دورا تنمويا بالتخطيط الاقتصادي وتحقيق التعاون بين القطاعين العام والخاص.
حققت كوريا الجنوبية نموًا اقتصاديًا سريعًا خلال النصف الثاني من القرن العشرين ما سمح لها بتحقيق تنمية شاملة، فقد استطاعت -منذ سبعينيات القرن الماضي- بناء اقتصادها وصناعتها، بعد عقود من الاستعمار الياباني وسنوات من حرب مدمرة مع جارتها الشمالية. وبحلول القرن الحادي والعشرين أصبحت كوريا قوة اقتصادية وتجارية وصناعية وتكنولوجية لتسطر بذلك واحدة من أنجح قصص التنمية في عصرنا الحديث.
إرث استعماري ثقيل وحرب مدمرة
استطاعت مملكة شيلا خلال القرن الثامن الميلادي توحيد شبه الجزيرة الكورية سياسيًا، وحافظت الممالك المتعاقبة على وحدة البلد واستقلاله إلى حدود بداية القرن العشرين، ففي سنة 1905، وُضع شبه الجزيرة الكورية الذي كان خاضعًا لمملكة جوسون (1392-1910) تحت الحماية اليابانية، وفي سنة 1910، أصبح خاضعًا للاستعمار الياباني لمدة 36 سنة.
وفي سنة 1945 حصلت كوريا على استقلالها بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية على يد الحلفاء. ومباشرة بعد استقلالها، أصبح شبه الجزيرة الكورية مسرحًا للصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي، وهكذا تم تقسيم كوريا إلى دولتين: واحدة في الشمال خاضعة للقوات السوفيتية، وأخرى في الجنوب تابعة للاستعمار الأميركي. وفي سنة 1948، تم انتخاب “سينغمان ري” ليكون أول رئيس لدولة كوريا الجنوبية، في حين تأسست دولة شيوعية بالشمال، وبحلول منتصف 1949 انسحبت القوات الأميركية والسوفيتية من الدولتين.
كانت كوريا الجنوبية حين تأسيسها واحدة من أفقر دول العالم؛ حيث لم يكن دخل الفرد فيها يتعدى 80 دولارًا في السنة، وكانت تعاني من دمار اقتصادي وفوضى سياسية، وبعد التقسيم ساءت الحالة الاقتصادية أكثر بسبب توقف النشاط الاقتصادي والتجاري الذي كان مترابطًا بين الشطرين. وجاءت الحرب الكورية سنوات 1950-1953، لتُلحق دمارًا واسعًا شمل كل القطاعات بالجنوب وقُدرت الأضرار الناجمة عن الحرب بحوالي 69 مليار دولار أي ما يعادل خمس مرات الناتج الإجمالي لكوريا الجنوبية حينها، فقد دمرت الحرب ربع البنية التحتية للبلد؛ ودمرت 40 بالمائة من الوحدات السكنية تدميرًا كاملاً، كما أتت على 46.9 بالمائة من شبكة السكة الحديدية و500 كيلومتر من الطرق والقناطر ودمرت 80 بالمائة من محطات توليد الكهرباء.
بالإضافة إلى ذلك ألحقت دمارًا واسعًا بالبنية الصناعية؛ حيث دمرت 68 بالمائة من مجموع المصانع وتراجع الإنتاج الصناعي بحوالي 75 بالمائة، كما تراجع إنتاج الأرز بـ 65 بالمائة وخلّفت الحرب أيضًا خسائر بشرية كبيرة قُدرت بحوالي 1.3 مليون كوري جنوبي، من بينهم حوالي 400.000 ألف قتيل، ومع انتهاء الحرب، تراجع دخل الفرد إلى حوالي 50 دولارًا سنويًا، وأصبحت كوريا تعيش على المساعدات الخارجية بشكل كامل، ودخلت البلاد في مرحلة من الاضطرابات الاقتصادية والسياسية.
الإرادة والتخطيط في مواجهة التحديات
وسط أجواء مضطربة سياسيًا واقتصاديًا، وصل الجنرال “بارك تشونغ هي” إلى سدة الحكم عبر انقلاب عسكري (1961-1979)، ومنح للتنمية الاقتصادية أولية كبرى، حيث كانت كوريا تعاني من نقص حاد في نسبة الادخار وتراجع كبير في حجم المساعدات الخارجية فأنشأ “بارك” لمواجهة هذه التحديات بنوكًا حكومية وأمّم البنوك الخاصة للتحكم في القروض وتوجيهها وفق ما تقتضيه الخطط التنموية، وغيّر الرئيس الجديد استراتيجية التنمية الاقتصادية من استراتيجية الإحلال محل الواردات إلى أخرى تعتمد على اقتصاد موجه نحو الصادرات. وكان هذا التحول ضروريًا للحصول على العملة الصعبة لشراء المعدات والتكنولوجيا التي يحتاجها قطاعه الصناعي الناشئ، وبالتالي تسريع عملية التصنيع وتحقيق استقلال تام.
كما ركن “بارك” إلى سياسة التخطيط المركزي؛ حيث أطلق المخطط الخماسي سنة 1962، وأنشأ مؤسسة جديدة تحمل اسم مجلس التخطيط الاقتصادي للإشراف على التخطيط وتنفيذ المخططات. وكان الهدف المعلن من المخطط الأول هو تحقيق نمو اقتصادي يبلغ 7.1 بالمائة خلال السنوات 1962- 1966 عبر تأمين مصادر الطاقة وتحسين البنية التحتية وتحسين ميزان المدفوعات الخارجية عن طريق زيادة حجم الصادرات. وارتفع الناتج الإجمالي المحلي من 4.1 بالمائة سنة 1962 إلى 9.3 بالمائة سنة 1963 وحافظ النمو على معدل يزيد عن 8 بالمائة في السنوات التالية.
وعمل الرئيس “بارك” أيضًا على تقوية دور الشركات العملاقة وتسخيرها لخدمة الأهداف التنموية. وكانت هذه الشركات ضعيفة ولا تستطيع أن تصنع منتجات كثيفة رأس المال من دون المساعدات التي تقدمها الدولة. وقد اشترطت الدولة أن تحقق هذه الشركات أداء اقتصاديًا ناجحًا والاستثمار في مجالات اقتصادية وصناعية جديدة في إطار ما ترسمه الدولة من مخططات، والتعاون الوثيق مع الحكومة، كشروط أساسية لتلقي الحماية من الدولة والعديد من الامتيازات التي تشمل المساعدات المالية والتمويلات التفضيلية وضمان الدولة للقروض الخارجية والحماية من اتحادات العمال.
وبفضل هذه الإجراءات تمكنت الشركات العملاقة من المشاركة في مخططات التنمية الاقتصادية وسياسة التصنيع التي رسمتها الدولة، واستهدفت في البداية الصناعات الخفيفة مثل الإسمنت والأسمدة والكهرباء. ونتج عن هذا التعاون توسع كبير للشركات ونمو كبير في حجم الصادرات الكورية من الصناعات الخفيفة، خصوصًا النسيج والملابس الجاهزة.
ومع بداية السبعينيات، ستواجه كوريا تحديًا جديدًا يتمثل في المنافسة الشرسة مع دول صاعدة استطاعت تطوير صناعاتها الخفيفة مما فرض على كوريا التحول نحو استراتيجية مغايرة تهدف إلى إنشاء قطاعات جديدة تستطيع المنافسة على الصعيد العالمي. وجاء المخطط الاقتصادي الخماسي الثالث ليعطي الأولوية لإنشاء الصناعات الكيماوية والثقيلة.
ولإنجاز هذا المخطط تم إنشاء العديد من مدارس التكوين المهني ومعاهد تكوين المهندسين والعلماء، وألزمت الدولة الشركات الصناعية الكبرى بتدريب مستخدميها. وتم تركيز جهود الدولة وتسخيرها لتطوير هذه الصناعات حيث تم إنشاء لجنة لتطوير الصناعات الكيماوية والثقيلة، وأنشئ صندوق الاستثمار الوطني للإشراف على الاستثمارات في هذا القطاع الذي عرف ارتفاعًا كبيرًا. واستفادت صناعات مثل بناء السفن والبتروكيماويات والصلب من إعفاء ضريبي كامل خلال السنوات الثلاث الأولى، وتكفلت الدولة بتجهيز المناطق الصناعية وربطها بشبكة الطرق والماء والكهرباء. وبحلول 1992، حققت هذه الصناعات نجاحًا كبيرًا في الأسواق الخارجية وأصبحت تشكّل 60.4 بالمائة من حجم الصادرات.
وحافظت كوريا على معدلات نمو مرتفعة حيث ركزت خلال فترة الثمانينيات وبداية التسعينيات على الاستثمار بكثافة في البحوث والتطوير وعملت على تطوير قدراتها التكنولوجية وتحسين تنافسية منتجاتها، مع الانفتاح على الخارج وتحرير سوقها المالي.
وفي سنة 1997، انهار الاقتصاد الكوري بعد الأزمة المالية الآسيوية وواجهت كوريا تحديًا هو الأكبر من نوعه؛ فقد تراجعت أرباح الشركات إلى الصفر وارتفعت ديونها وانهار قطاع الصادرات والنظام المالي للدولة الكورية وغادرت الاستثمارات الأجنبية البلد. ولتجاوز الأزمة تخلّت الدولة عن دورها التنموي وأدخلت إصلاحات لتحرير اقتصادها وتحويله لاقتصاد السوق، واستطاعت كوريا أن تتعافى بفعل تنشيط قطاع الصادرات عبر تخفيض قيمة العملة الكورية وحزمة الإصلاحات المالية التي أدخلتها الحكومة، ناهيك عن حزمة الحوافز التي أطلقتها في مرحلة ما بعد الأزمة. ثم واصلت كوريا تقدمها، وبدأت تراهن على تكنولوجيا المستقبل خصوصًا تكنولوجيا المعلومات والتكنولوجيا الخضراء، لمواصلة نموها وتقدمها نحو القرن الحادي والعشرين.
عوامل النجاح في التجربة الكورية العامل البشري
لعبت اليد العاملة الكورية دورًا حاسمًا في إنجاح التجربة التنموية الكورية، ففي ظل غياب الموارد الطبيعية وضيق المساحة الجغرافية وشُح رأس المال، راهنت القيادة الكورية على رأس المال البشري كمورد للتنمية. فاستثمرت بكثافة منذ البداية في التعليم ومدارس التكوين المهني، لتطوير إنتاجية عمالها وتحسين مهاراتهم لمواكبة التطورات التكنولوجية التي واكبت عمليات التصنيع السريع. وهكذا ارتفعت نسبة الإنفاق على التعليم من 2.5 بالمائة سنة 1951 لتصل إلى أكثر من 23 بالمائة من الميزانية بحلول الثمانينيات.
كما أولت الدولة التدريب والتكوين المهني اهتمامًا كبيرًا مع التركيز على العلوم والتكنولوجيا، وبلغ عدد الطلبة الذين يتابعون دراساتهم في الشعب التقنية والعلمية حوالي 70 بالمائة من مجموع الطلبة سنة 1980، وعملت الدولة على ابتعاث عدد كبير من الطلبة والموظفين للدراسة والتدريب.
وبالإضافة إلى المستوى التعليمي والمهني، كانت ظروف العمل جد مجحفة، فقد أصدر “بارك” أمرًا بمنع الإضرابات وحظر كل النقابات العمالية ومنع العمال من التنظيم تحت أي إطار كان أو التفاوض بصفة جماعية، ووجدت الطبقة العاملة نفسها تعمل لساعات أطول حيث كانت ساعات عمل الأسبوع في القطاع الصناعي تزيد بـ 13 ساعة عن نظيرتها في اليابان و6 ساعات عن مثيلتها في تايوان بحلول عام 1986.
الشركات العملاقة
كان القطاع الكوري الخاص منظمًا على شكل شركات عملاقة، تزاول كل الأنشطة الاقتصادية والتجارية وتستحوذ على جزء كبير من مجموع الإنتاج، وبالتالي جزء كبير من الصادرات، حيث شكّلت هذه الشركات الخاصة الذراع التنفيذية للدولة، وقد كانت هذه الأخيرة تحدد الاختيارات الاستراتيجية والخطط التنموية، وتتولى الشركات الخاصة التنفيذ، واستفادت من المساعدات الحكومية لتتحول من الصناعات التي تعتمد على يد عاملة كثيفة إلى الصناعات الثقيلة في السبعينيات ثم إلى الإلكترونيات والصناعات المتطورة التي تحتاج لرأسمال كثيف بحلول الألفية الثالثة.
البيروقراطيون يعود نجاح التجربة التنموية لكوريا، في جزء كبير منه، إلى الدور الذي لعبه الموظفون الحكوميون في مجلس التخطيط الاقتصادي ومكتب التنسيق والتخطيط ووزارتي المالية والتجارة؛ حيث أُنشئت وحدات التخطيط والتسيير في كل وزارة.
تشكلت هذه النخبة الإدارية من ذوي التعليم العالي حيث كانوا يحملون شهادات عليا من جامعات محلية وأخرى خارجية رائدة على المستوى العالمي، وكانت لديهم رؤية اقتصادية واضحة، وكانوا يسهرون على التخطيط وتحديد الأهداف والخطوط العريضة وتطبيق الاستراتيجيات لحل مشكلات التنمية والتعليم والقضاء على الفقر، وبناء اقتصاد حديث وبنية صناعية وتكنولوجية متطورة وتحديث البنية التحتية وتحسينها وتحضير الصناعة الكورية لدخول الأسواق العالمية وتحويل البلد إلى قوة اقتصادية وتجارية عالمية.
العوامل الخارجية
ساهمت الولايات المتحدة في التجربة التنموية الكورية، بتوفيرها لمظلة أمنية للجنوب وتقديمها لمساعدات مالية مهمة؛ حيث قادت الولايات المتحدة قوات الحلفاء في الحرب الكورية وأعادت قوات الشمال إلى ما وراء خط 38، ثم وقّعت اتفاقية الدفاع المشترك مع كوريا الجنوبية سنة 1953، ويوجد حوالي 28.000 جندي أميركي في الجنوب، ولا تزال القوات الكورية خاضعة لقيادة أميركية منذ زمن الحرب، وتلعب دورًا أساسيًا في ردع أي هجوم عسكري محتمل من الشمال. وبلغ مجموع المساعدات العسكرية والاقتصادية التي
قدمتها الولايات المتحدة لكوريا الجنوبية في الفترة الممتدة بين 1947 و1976 إلى 12.6 مليار دولار.
وبلغ حجم المنح الاقتصادية والقروض 6 ملايين دولار، وهو ما يقارب مجموع المساعدات الاقتصادية التي قدمتها الولايات المتحدة لكل الدول الإفريقية (6.89 مليار دولار) خلال هذه الفترة، كما فتحت الولايات المتحدة أسواقها أمام الصادرات الكورية منذ ستينيات القرن الماضي؛ حيث استقبلت السوق الأميركية 41.7 % من مجموع الصادرات الكورية سنة 1970 وحوالي 35% خلال الثمانينيات.
تحديات المستقبل
بفعل عقود من النمو الاقتصادي المستدام، أصبحت كوريا قوة عالمية من الحجم المتوسط وتحولت من بلد كان يعيش على المساعدات إلى بلد مانح لها، بعد انضمامها لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية سنة 1996، وبعد تعافيها السريع من أزمة 1997 الآسيوية وأزمة 2008 العالمية، تواصَل نمو الناتج الإجمالي المحلي لكوريا ليصل إلى 1.116 تريليون دولار عام 2011.
ويبلغ متوسط الدخل السنوي للفرد حوالي 29.920 دولارًا، وتحتل المرتبة 12 اقتصاديًا والثامنة تجاريًا على المستوى العالمي، مما جعلها تتبوأ المرتبة 12 عالميًا سنة 2012 على سلم التنمية البشرية للأمم المتحدة، كما استطاعت كوريا الجنوبية أيضًا بناء نظام ديمقراطي قائم على أساس التعددية السياسية واحترام الحريات العامة والحقوق النقابية لتستكمل بذلك معالم تجربة النهوض الكوري. وبالرغم من هذا التطور فإن كوريا الجنوبية تواجه تحديات جمة:
–على الصعيد الاقتصادي : إذا كانت بعض مناطق البلد قد بلغت درجات عليا من التطور والتقدم فإن مناطق أخرى ما زالت تكافح لتتطور؛ فقد ركزت السياسات التنموية التي اتبعتها الحكومات الكورية سابقًا على سيول ومقاطعة “كيونغ كي” المحيطة بها، وأصبحت هذه المنطقة تحتوي على 57% من الشركات الصناعية وثلثي الأنشطة المالية.
ويتواجد جُلّ الجامعات ومراكز البحث العلمي بسيول وضواحيها، وبلغت نفقات سيول على البحث العلمي 20 بالمائة من الإنفاق الوطني سنة 2010، وأنفقت “كيونغ كي” ضعف هذه النسبة، وساهمت سيول والمناطق المحيطة بها بحوالي 43 بالمائة من الناتج الإجمالي للبلد سنة 2010، وهكذا أصبحت قبلة لكل الساكنة بسبب حيويتها والفرص الاقتصادية المتوفرة، في حين تعاني المناطق الأخرى من ركود اقتصادي وتناقص في عدد السكان؛ مما يؤكد حاجة كوريا لسياسة تنموية أكثر توازنًا.
أما على مستوى بيئة الإنتاج فقد تفوقت الشركات الكورية العملاقة على التحديات التي رافقت رحلة التنمية وأصبحت رائدة عالميًا على جميع المستويات لكنها أصبحت في الوقت الحالي تعوق الأداء الاقتصادي الكوري. وبالرغم من الإصلاحات التي عرفتها هذه الشركات بعد الأزمة المالية الآسيوية فإن العائلات المالكة لهذه الشركات ما زالت ترفض التحلي بالشفافية والتبني التام للطرق العصرية في التسيير والإدارة التي تتبعها الشركات العالمية الكبرى ما يؤثر على تنافسية السلع الكورية في العالم. كما تتفجر داخل الشركات من حين لآخر مجموعة من الفضائح المالية المرتبطة بالفساد المالي والتهرب الضريبي.
ويحول النفوذ الكبير لهذه الشركات والممارسات الاحتكارية والتجارية غير المشروعة دون تطور وازدهار قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة الذي يعتبر محركًا للنمو وموردًا لخلق مناصب الشغل في أغلب الدول المتقدمة.
كما تحتاج كوريا الجنوبية لتطوير قطاع الخدمات الذي يبقى متخلفًا مقارنة مع الدول المتقدمة؛ فهذا القطاع هو القادر على خلق مناصب الشغل ذات الدخل المرتفع. وعلى خلاف الدول المتقدمة فإن الرواتب في قطاع الخدمات الكوري أقل من نظيرتها في القطاع الصناعي.
– على الصعيد الاجتماعي : يتوجه المجتمع الكوري بسرعة نحو ارتفاع عدد المسنين، ليصبح ثاني أكبر مجتمع شائخ في العالم بعد اليابان بحلول 2050، كما تدنت نسبة الخصوبة إلى 1.23 مولود لكل امرأة لتكون واحدة من أقل النسب في العالم، ويطرح هذان العاملان تحديًا كبيرًا يتمثل في تقلص حاد في نسبة السكان القادرين على العمل، وتراجع الاستهلاك المحلي مع ارتفاع نفقات الدولة لدعم المسنين.
كما تعاني كوريا من تفاوت طبقي كبير بين الأغنياء والفقراء، بحيث إنها تُعتبر ثاني بلد بعد الولايات المتحدة من حيث سوء توزيع الثروة، وتراجعت نسبة الأسر متوسطة الدخل من 75.4 بالمائة سنة 1990 إلى 64 بالمائة من مجموع السكان سنة 2011.
واضافة لذلك يعتبر موقع كوريا الجغرافي أحد تحديات تجربتها في النمو الاقتصادي؛ حيث تتواجد في منطقة متوترة؛ فحالة الحرب ما زالت قائمة بين الشمال والجنوب ولم توقع الكوريتان اتفاقية للسلام بعد، كما تتنازع كوريا الجنوبية السيادة مع اليابان حول جزيرة دوكدو/ تاكيشيما، كما توجد بالمنطقة بؤر توتر أخرى مثل قضية تايوان والنزاع حول جزر بحر الصين الشرقي بين اليابان والصين، وقد تعصف هذه البؤر بالاقتصاد الكوري في حالة اشتعالها.
الدروس المستفادة
من المؤكد أنه لا يمكن استنساخ تجارب الدول بحذافيرها؛ فالظروف التي تطورت فيها كوريا والموقع الجغرافي يجعل من التجربة الكورية تجربة فريدة وخاصة بالشعب الكوري. غير أن هذا لا يمنع من استخلاص بعض الدروس والعبر التي يمكن أن تكون مفيدة للدول العربية التي عجزت عن تحقيق نهضة شاملة بالرغم من توفر بعضها على موارد طبيعية ومالية ضخمة وتوجد في وضع أفضل من وضع كوريا بعد الحرب الكورية، بل كان بعضها في السابق يحتل مكانة أفضل من كوريا في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي مثل مصر والعراق وسوريا والسعودية، ويتلخص أهم الدروس في:
– دور الدولة
لعبت الدولة دورًا كبيرًا وإيجابيًا في عملية التنمية الاقتصادية. ويشار إلى أن التدخلات كانت ترتكز على إرادة سياسية صلبة وثابتة وتعتمد التخطيط بعيد المدى والسياسات التنموية السليمة والملائمة للواقع الكوري. كما أن الدولة كانت ترى أن التنمية الاقتصادية ستساعدها على بناء قوتها لمواجهة الخطر الشمالي وعدم تكرار تجربة الاستعمار الياباني.
– التعاون الوثيق بين القطاعين العام والخاص
أظهرت التجربة الكورية أن الحكومة كانت قادرة على تقليل مشاكل التنسيق بينها وبين القطاع الخاص وكانت قادرة، بفعل العلاقات التي نسجها البيروقراطيون مع الشركات الكبرى والبنوك، على الحصول على المعلومات الضرورية لاتخاذ القرارات الاستثمارية وتوجيه الموارد إلى القطاعات التي يمكن أن تساهم بفاعلية في النمو الاقتصادي.
– البحث العلمي
أصدرت كوريا ترسانة من القوانين لتشجيع البحث العلمي، وأنشأت العديد من المكاتب والهيئات لتنسيق البحوث، وأنفق كل من القطاع الخاص والعام موارد مالية ضخمة لردم الهوة التي كانت تفصل كوريا عن الدول المتقدمة، ثم أصبحت تنفق الآن لتطوير تكنولوجيا جديدة وتحقيق المزيد من التقدم خصوصًا في مجالات تقنية المعلومات وتقنية النانو والبايوتكنولوجيا، للحفاظ على مكانتها كقوة تكنولوجية.
– الاستثمار في العامل البشري
أثبتت التجربة الكورية أن تطوير قدرات الشعوب عبر التعليم والتدريب ضروري لخلق شروط تسمح بمواكبة التطورات والقدرة على المنافسة وتحسين الإنتاجية مما يساهم بشكل حاسم في التنمية.
– استغلال الظروف الدولية
وجدت كوريا نفسها عالقة في الصراع الدائر بين المعسكرين الغربي والشرقي فاستغلت تحالفها مع الولايات المتحدة لتحقيق التنمية الاقتصادية كجزء من بناء قوتها الشاملة وتحقيق استقلال سياسي واقتصادي وتكنولوجي وصناعي.
وكخلاصة يمكن القول بأن التجربة الكورية سواء على مستوى النهوض أو على مستوى تجربة إعادة الإعمار بعد الخروج من حرب مدمرة، كانت ناجحة لكنها لم تكن مثالية؛ فقد دفع الاعتماد على الشركات العملاقة إلى تغول هذه الأخيرة واحتكارها لكل الأنشطة على حساب الشركات الصغيرة، كما نتج عن السياسات التنموية لكوريا اختلال كبير في التنمية بين سيول والمناطق الأخرى، وتفاوت كبير في الاستفادة من فرص التنمية بين الطبقتين الفقيرة والغنية، ما جعل الطبقة العاملة تدفع أثمانًا باهظة خلال السنوات الأولى حيث جُردت من كل حقوقها تقريبًا.
وتظلّ التجربة الكورية مثالاً يبرهن على أن الإرادة السياسة والتخطيط السلمي والبعيد المدى وحسن استعمال الموارد، وقبل كل ذلك الانطلاق من تطوير ذاتي ونقدي للقيم والثقافة المحلية، قد يمكّن العرب، في حال استلهامه، من النهوض وتبوء مكانة تليق بتاريخهم وحضارتهم العريقة.