حمّالة الحطب بالأمس إخوان الصفاء اليوم
لا شكّ أنّ السياسة هي “فنّ الممكن”، وبما أنّها صنيعة البشر فهي حمّالة أوجه ومتجدّدة ومتحرّكة وليست جامدا متكلّسا بل هي فضاء رحب يسع كلّ المتغيّرات ويأوي جميع المتناقضات، السياسة مجال نوافذه مفتوحة على كافّة الاحتمالات والإستحالات سواء من ناحية من ناحية تبديل القناعات أو التنازل عن المبادئ أو التخلّي عن الثوابت لو لزم الأمر عملا بمقولة “الضرورات تبيح المحظورات”، وهو ممارسة نلامسها من الفاعلين في الحراك السياسي التّونسي، وتحديدا حركة النّهضة التي كانت إلى وقت قريب قاطرة الحكم في البلاد طيلة ما يتخطّى عامين ونيف والتي غيّرة كليّا بوصلة سياساتها العامّة وتوجّهاتها الكبرى وحتّى شبكاتها “العلائقيّة” مع الأطراف الحزبيّة والسياسيّة التي تناقضها تمام التناقض في الأفكار والرؤى والإيديولوجيّات.
وعلى طريقة ” FeedBack” المتعارف عليها في الحقلين السينمائي والمسرحي ومجال الدعاية والإشهار، فإنّه ذات صباح من أيّام حكم “التّرويكا” ضمنت جريدة محسوبة على “النهضة” صفحتها الأولى عنوانا بالبنط العريض يتألف من عبارتي “حمّالة الحطب”، في إشارة إلى ما اصطلح عليهم بـ”الأزلام” ولم يكن القصد وقتها فقط رموز نظام بن علي وإنّا كلّ معارضا سيان كان وسطيّا أو ليبراليّا أو تقدّميّا أو يساريّا أو حتّى محافظا أو إسلاميّا جنح إلى الاستقلالية وآثر الوطنيّة على الألوان والأحزاب، كلّ من خرج عن بيت الطاعة وحضيرة الولاء للحركة لا ضير أن يلحق بخانة الموصوفين بـ”حمّالة الحطب” ولا إشكال في ضمّه إلى قائمة “المغضوب عليهم”، الجميع قدّر لهم أن يوضعوا في سلّة واحدة لينعتوا بعد ذلك بما نعت به الخالق سبحانه وتعالى “امرأة لهب”.
وقتها لم يعلّق كثيرون على “العنوان” ولم يستثر الاهتمام رغم الدّلالات التي يحملها والمغازي التي يستبطنها، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى أنّ البلاد كانت على صفيح ساخن والمناخ العامّ مشحون تحت ضغط الاحتجاجات والإضرابات وقطع الطريق في ظلّ ضعف الدولة والاستخفاف بهيبتها من قبل فئات استغلّت فراغ السّاحة من مؤسّسة تنفيذيّة ذات جدوى أو جهاز أمني قويّ يبسط سلطة القانون ويردع المارقين، وما زاد الوضع تأزّما وتعقيدا تشتّت جهود وحدات الأمن والجيش الوطنيين بين واجهات متعدّدة وجبهات مختلفة من ذلك محاربة الإرهاب وحماية الممتلكات العامّة والخاصّة وتأمين الحدود سيما خطوط التماسّ المتاخمة للقطر الليبي الشّقيق الذي كان في تلك المرحلة قاب قوسين أو أدنى من التفجّر بالكامل، وما زاد الطين بلّة “القطيعة” التي عاشها الأمنيّون في الفترة الأولى التي أعقبت الثورة بعد لطّخ نظام المخلوع سمعة الجهاز الأمني، وسوّق لصورة خاطئة ومغلوطة معتمدا في ذلك على سياسة “فرّق تسدّ” ممّا خلق “عداء” و”كرها” بين المواطنين والأمنيين.
ولكن بسرعة السيف القاصم، وبقدرة قادر تمّ تبديل الوتر فتغيّر العزف النهضوي، والتقى “الشيخان” وتوافقا واتفقا، وانطلق الإعداد لـ”سمفونيّة” الحوار والمشورة والتوافق وانبرى زعماء الحركة يسوّقون لتجسيد تلك القولة الرائجة “دعه يعمل دعه يمرّ”، وبقدرة قادر طمس قادة النهضة على تاريخ طويل من التّنافر والاستعداء لكلّ من عاداهم من كلّ الأطراف وفي طليعتها من نعتوهم بـ”الأزلام” من رموز النظام الآفل، بسرعة البرق اضمحلّت عداوة الأمس القريب وانفضت الخلافات الإيديولوجيّة وأزيحت الحواجز والمعرقلات عن سبيل الوفاق، واختفت روابط حماية الثورة وتوارى زعماؤها عن الأنظار،
وبقدرة قادر تكثّفت اللّقاءات وتنظّمت المحافل وأقيمت مآدب الغداء والعشاء على شرف “إخوان الصّفاء” خلاّن اليوم.. “حمّالة الحطب أعداء الأمس”، بل أكثر من ذلك صار الإحتصان و”التباوس”، وبقدرة قادر حضرت المرونة في الخطاب والإنسيابيّة في النّقاش، ودون سابقة “كلّ يد شدّت أختها” وكما يقال النهضة و”الأزلام” أصبحوا “إخوان” وفي صحفة العسل.
كلّ تونسي حرّ له ذرّة من الوطنيّة ستتهلّل أساريره بحصول تقارب كان تحقيقه من باب المستحيلات السّبعة، هذا التّقارب الذي ساهمت فيه “النّهضة” وأطراف لها فعلها وتأثيرها في المشهد العام يقول شقّ واسع من الرأي العامّ أنّه لم يكن لوجه الله وليس من خدمة باب الصّالح العام وتغليب المصلحة الوطنيّة وإنّما هو من قبيل “المرواغة” السياسيّة من أجل استقطاب ما يمكن استقطابه من غير «الرّاضين” ومن “الأغلبيّة الصّامتة” ومن أجل التموقع في السّلطة طمعا فيما تجلبه على ممتهنيها من النفوذ والسطوة وقضاء المصالح.
في السياسة لا أعداء أبديين ولا أصدقاء مخلّدين، والحجّة على من ادعى واليمين على من أنكر، والدّليل القاطع والبرهان السّاطع أنّ من كانوا يوصفون بالأمس “حمّالة الحطب” هم اليوم مبجّلون و”خوان الصفاء” و”خلاّن الوفاء”.