التّداين الأســري: أكثر من 18 مليار دينار قيمة ديون 900 ألف عائلة تونسيّة مقترضة من البنوك
قدّرت المديونية الداخلية العامة بالبلاد التونسية بقيمة 39885 مليون دينار في آخر سنة 2015 ترجع حصة 91.4 بالمائة منها للجهاز المالي، حيث تفّسر هذه الوضعية بتفاعل عدة عوامل أهمها ضعف قيمة الأموال الذاتية للمؤسسة الاقتصادية التونسية ومحدودية قدرتها على تحقيق ربحية تمكّنها من تخصيص مدّخرات واحتياطيات كافية تدعم طاقتها الاستثمارية ووضعية سيولتها.
أكثر من 18 مليار دينار قيمة ديون العائلات التونسية للبنوك
شهدت السنوات الأخيرة طفرة كبيرة على مستوى قيمة القروض الاستهلاكية المسندة للأفراد إذ ازدادت منذ سنة 2011 بنسبة 73 بالمائة لتبلغ أكثر من 18 مليار دينار في آخر ديسمبر 2015 بما يضاهي ثلث القروض البنكية حسب معطيات “مركزية المخاطر” بالبنك المركزي التونسي لتشمل تقريبا 900 ألف عائلة تونسية، حيث تنفق معظم “السّلفات البنكية” في اقتناء المستلزمات الحياتية بحصّة الثّلثين، فيما يصرف ما تبقّى من القيمة الماليّة على وسائل النّقل والعقارات تهيئة واقتناء.
غير أن هذه الوضعية لا تمثّل إلا الجزء الظّاهر من المشكلة إذ تبيّن الإحصاءات لجوء التونسيين بكثافة إلى القروض المباشرة للمزوّدين من تجّار ومساحات كبرى وغيرهما حيث بينت دراسات واستقصاءات عديدة أن 80 بالمائة من حرفاء المزودين المذكورين يلجؤون للخلاص بالتقسيط عند اقتناء طلباتهم فضلا عن التّسبقات البنكية على الحسابات التي تناهز 9620 مليون دينار مّما يجعل من كل حريف بنكي من صفة الأفراد مدينا، تقريبا، بمعدل أجرة شهر وربع وذلك في تجدّد متواصل.
ويقدّر بعض الخبراء مديونية التونسيين حاليّا للبنوك بـنسبة 56 بالمائة، وهو مؤشر يعتبرونه عاليا ويتجاوز الحدود المعيارية المعمول بها، الأمر الذي يشكل وضعية معقدة لها عديد الانعكاسات على التوازنات الاقتصادية عموما وعلى نسق نشاط الجهاز المالي والبنكي خصوصا.
ويؤكّد هؤلاء الخبراء التأثير السلبي الكبير للتطور المجحف للمديونية على الأسر والأفراد، ملاحظين أنّه خلال السنوات الأخيرة سجّل استقرار في قدرة الأسر والأفراد على الادّخار في حدود 5 بالمائة، كما لم تتجاوز نسبة الاستهلاك الخاص 8.9 بالمائة خلال الفترة 2005-2013 وذلك تحت تأثير الارتفاع الشديد لكلفة العقارات التي تشهد مضاربات كبرى وتستهلك تقريبا القروض الممنوحة لاقتنائها 40 بالمائة من مداخيل السّكان النّاشطين إلى جانب تنامي الطلب على السيارات التي يتم توريدها.
ويكشف أهل الاختصاص أنّ قيمة القروض الممنوحة للحرفاء تجاوزت بمرات عديدة قيمة الأموال الذاتية للبنوك كما ناهز تقريبا مؤشّر تحويل الودائع إلى القروض 94 بالمائة الأمر الذي أدى، خصوصا في الفترة الأخيرة، إلى ضغط على السيولة البنكية حيث ضخ البنك المركزي التونسي ما يعادل 5850 مليون دينار بالسوق النقدية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من سنة 2016.
الأسر تغرق
حسب استبيان قام به المعهد الوطني للإحصاء على عينة من 1500 ربّ أسرة فإن 40 بالمائة من الأسر التونسية لها سلوك عشوائي وغير منضبط في الانفاق وتحصّل 23 بالمائة من المستهلكين على قروض استهلاكية، كما ينجرف 62 بالمائة من التّونسيين وراء الاشهار الذي يحث على مزيد من الانفاق.
ويعتبر التونسيون أن “التداين هو الحلّ خاصة مع ارتفاع المعيشة وضعف المقدرة الشرائية”، لكن مقابل ما قد تجده الدولة من حلول في الجباية والتداين الخارجي فإن ارتفاع الاجور لم يستجب لحجم ارتفاع الطلبات وهو ما جعل التونسي حسب الخبراء يدخل في متاهة من التداين المفرط.
ويوجّه التونسيون مصاريف القروض في 80 بالمائة منها الى شراء مسكن أو تحسينه والبقية الى قروض السّيارة والاستهلاك، حيث تشهد القروض تطوّرا بنسبة 17 بالمائة خلال الـ 5 سنوات الأخيرة، فضلا عن ذلك تمثل القروض المسندة من البنوك التونسية الى الأسر حوالي 31 بالمائة من جملة القروض المقدمة الى الاقتصاد عموما.
وقد فسّر الخبير الاقتصادي السيد مراد الحطاب قائلا إنّ “التداين هو نتيجة طبيعية للوقوع في وضعية أزمة ولكثرة نسبة التضخم، والوضعية ستكون مرشحة الى مزيد من التأزم إذا تمّ الترفيع في قيمة الفائدة البنكيّة على القروض الاستهلاكيّة”، مضيفا أنّه “نتيجة لكثرة التداين فإن الأسر قد تصل الى مرحلة تعجز فيه عن تسديد ديونها، ويمكن أن يصل التّونسي الى وضعيّة مترديّة من تدهور المقدرة الشرائية”.
من منظور علم الاجتماع “التونسي ضحية”
يقول الباحث التّونسي في علم الاجتماع “طارق بالحاج محمد” أنّ “التداين أصبح جزء من عقيدة العصر الحديث يلتجئ إليه الأفراد والأسر والمؤسسات وحتى الدول والحكومات”، مضيفا أنّ “المشكل ليس في عملية التداين في حدّ ذاتها بل في التّصرف في هذه الديون وتوظيفها وتبويبها حسب الحاجيات العاجلة والآجلة، والمشكل الأكبر أن تمس هذه الديون بصفة حادة أهم مؤسسات التنشئة والاستقرار الاجتماعي وهي العائلة”.
ويصنّف الباحث أنّ المواطن التّونسي المتداين لدى البنوك هو ضحيّة في مستويات ثلاثة:
(المستوى الأوّل) ضحية وضع عام
“التونسي ضحية وضع اقتصادي واجتماعي وسياسي قائم، فبعد أن كان التونسي يتداين من أجل المستقبل (الاستثمار في منزل أو عقار)، فانه أصبح اليوم يتداين لمواجهة صعوبات الحياة وتفاصيلها ولكي يعيل عائلته في وضع اقتصادي شديدة التعقيد والهشاشة، حاله في ذلك حال حكوماته المتعاقبة بعد الثورة حيث كانت ولا زالت تتداين من أجل الاستجابة لليومي والعاجل والاستهلاكي من أجور وتعويضات وغيرها عوض أن تتداين من أجل الاستثمار والتنمية وخلق الثروة”.
“وضع اقتصادي عام ينحو باتجاه حذف الطبقة الوسطى برمتها من الخارطة الاقتصادية والاجتماعية بعد أن كانت محركا أساسيا للحياة الاقتصادية والاجتماعية، وبعد أن كانت نسبتها تبلع عتبة 75 و80 بالمائة في السبعينات فهي اليوم لا تتجاوز نسبة 50 بالمائة، وبضعف دورها وتفقيرها تفقد عنصرا من عناصر قوتها وتتحول إلى عبء اقتصادي بعد أن كانت تلبي احتياجاتها واحتياجات الطبقات الأدنى منها ليس من خلال التداين، بل من خلال الفائض عن دخلها أو من خلال عملية الادخار والاستثمار التي أصبحت شبه مستحيلة اليوم”.
“فحسب بيان البنك المركزي، فإن حجم القروض المقدمة للأسر التونسية من طرف البنوك بلغ إلى حدود شهر جوان 2013 ما قيمته 15374 مليون دينار استفادت منها 800 ألف أسرة أي نسبة 30.7 بالمائة من الأسر التونسية ونسبة 22.8 من اليد العاملة النشيطة، وأن 2058 مليون دينار هو حجم كتلة القروض الاستهلاكية لوحدها (أي القروض غير الموجهة لشراء مسكن أو تحسينه أو لشراء سيارة). هذه الأرقام لا تعكس واقع التداين بدقة، فالتونسي لا يقترض من البنوك فقط، فهو يقترض أيضا من الصناديق الاجتماعية ودواوين الخدمات الجامعية ويستعمل صيغة الشراء بالتقسيط ويتداين من العائلة والأصدقاء ومن دكان الحي (كنش الكريدي) وهي كلها معطيات لا تؤخذ بعين الاعتبار في بيانات البنك المركزي وتعكس حجم غرق التونسي في دوامة الديون بكل أشكالها وصيغها”.
(المستوى الثاني) التونسي ضحية سلوكه وخياراته في الحياة
“نظرا لتطور المجتمع التونسي نحور الرفاهية، فقد أصبحت له مشاغل وإشكاليات الدّول المتقدمة التي تتسم بتراجع الإنتاج وتنامي الاستهلاك، فالتّونسي واقع في فخ نمط اجتماعي استهلاكي يساير فيه دون وعي كبير الموضة والصديق والقريب والزميل والجار من أجل التماهي مع صورة اجتماعية غير واقعية لا تعكس إمكانياته بقدر ما تستجيب لنزواته ومحاولاته لإرضاء طلبات القرين والأطفال مما جعل نسبة القروض على المستوى الوطني تنمو شهريا بنسبة 2 بالمائة (أي بين 200 و300 ألف دينار) وتتطور سنويا بـ17 في المائة خلال الخمس سنوات الأخيرة”.
“وما يعمق هذه الوضعية هو تواتر العديد من المواسم الاستهلاكية (الأعياد، الدينية، المناسبات الاجتماعية، العودة المدرسية، المهرجانات…) مما يؤدي إلى اختلال التوازن بين المنظومة الاستهلاكية والقدرة الشرائية للمستهلك التونسي، كما تغيرت وجهة استثمار التونسي، فبعد أن كان يستثمر في رأس المال المادي (منزل أو عقار)، أصبح يستثمر في رأس المال الرمزي (التربية والتعليم الجيد ونمط الحياة العصري) وهذا أمر مفهوم، فالطّبقة الوسطى هي منزلة ما بين المنزلتين، تقبل على الاستهلاك والعمل والتعليم بشكل متزايد على عكس الطبقات الضعيفة التي تعتبرها إما قيما مكلفة أو قيما غير مجدية في الحياة.
(المستوى الثالث) التونسي ضحية سياسات مالية وبنكية
“نسبة التداين المرتفعة ما كان يمكن لها أن تصل إلى هذه الحدود لو لم تكن وراءها سياسات اتصالية واستراتيجيات بنكية تورط التونسي وتشجعه على الاقتراض في إطار التنافس المحموم فيما بينها. تدفع الأجراء إلى ذلك بعد أن تستوفي معهم كل شروط الإغراء وكل شروط الضمانات البنكية، فهي تتجه أساسا إلى الأجراء ذوي الدخل القار بعد أن تكبلهم بضمانات التأمين على الحياة وإجراءات توطين الأجور ممّا يجعلها ضامنة لاسترجاع رأسمالها وفوائدها المرتفعة بدون أي مخاطر، وهي تركز على هذه الشرائح أكثر من غيرها عوض أن تركز على الاستثمار في الاقتصاد الذي تعتريه بعض المخاطر، وهذا ما خلق نوعا جديدا من التداين وهو الاقتراض من أجل خلاص الديون والقروض البنكية السابقة وهو ما يزيد من حجم نسب التضخم على المستوى الاقتصاد العائلي والوطني”.
التّداعيات الاجتماعية
يؤكّد الباحث التّونسي في علم الاجتماع “طارق بالحاج محمد” أنّ “التداين الأسري ليس قضية اقتصادية وتنموية فحسب، بل هو أيضا مشكلة اجتماعية فهو يحرم الأجيال المقبلة من فرصتها في بداية حياتها دون ديون، وهو أيضا يساهم في الضغط اليومي على الأسر ويفسد علاقاتها، كما أنه يساهم في تطوير منسوب الانحراف والجرائم الاقتصادية كجرائم التحيل والشيكات بدون رصيد التي تعصف بالاستقرار النفسي والاجتماعي لطيف واسع من العائلات التونسية”.
ويرى عديد الخبراء بأنّ التفكير في إيجاد حلول للتخفيف من عبء مديونية التونسيين ينطلق بالضّرورة من انجاز دراسات دقيقة لتشخيص الوضع وقياس درجة المخاطر المترتبة عنه، كما يتطلب الأمر إرساء تشريعات خاصة تحدد مفهوم الطرف الاقتصادي الذي يعاني مشكل المديونية المشطة لتمكينه من ظروف التسوية وذلك عن طريق هيأة مختصة تتناول الملف برمته للحفاظ على الحد الأدنى من السيولة لمجابهة متطلبات النشاط الاقتصادي.