مسؤولات في وظائف عليا من ضحاياه: التّحرش الجنسي يتفاقم في تونس
بالرّغم من وجود ترسانة قانونية تحمي المرأة التونسية من التحرش الجنسي، حيث “يعتبر التحرش الجنسي جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن بعام أو بخطية قدرها ثلاثة آلاف دينار”، لاتزال هذه الظاهرة منتشرة في تونس في غياب إحصائيات رسمية دقيقة.
وكان تقرير صادر عن وزارة المرأة أظهر أن نحو 50 بالمائة من النساء التونسيات تعرضن للعنف بكل أنواعه، الجسدي والجنسي، وأن امرأة من اثنتين تعرضت للعنف في تونس، في المقابل تؤكّد إحصائيات متواترة إعلاميّا في الآونة الأخيرة أنّ آلاف النساء يتعرّضن إلى “التحرّش الجنسي” سنويّا، وأنّ الحالات المصرّح بها من قبل الضحايا خاصّة إلى أفراد من الأسرة أو المحيط القريب تتجاوز مستوى الـ 100 يوميّا في شتّى المواقع.
ظاهرة تتفاقم والتكتّم سيّد الموقف
تؤكّد الناشطة في مجال حقوق المرأة “حفيظة شقير” أنّ “ظاهرة التحرش الجنسي بالنساء تتفاقم من سنة لأخرى، والجمعية التي تنشط فيها تتلقى شكاوى من نساء وقعن ضحية التحرش الذي يعد شكلاً من أشكال العنف الجنسي ضد المرأة سواء في مقر العمل أو وسائل النقل أو حتى في النطاق العائلي القريب، غير أن أغلبهن يتكتمن ولا يتجهن للقضاء خوفاً من الفضيحة ونظرات المجتمع لهن كمتهمات لا كضحايا”.
وتستدرك قائلة: “لاحظنا بعد الثورة أن هناك تطوراً في موقف النساء من مواجهة ظاهرة التحرش، حيث بدأت بعضهن في الخروج عن دائرة الصمت والحديث عن تجاربهن مع التحرش، ومنهن من توجهن للقضاء وهو مؤشر في اعتقادي إيجابي”.
من ناحيته يقول مدير مكتب منظمة العفو الدولية بتونس “لطفي عزّوز” إنّ “غياب الدراسات حول ظاهرة التحرش الجنسي في تونس باستثناء دراسات عامة حول العنف الجسدي والجنسي المرأة قامت بها جهات حكومية، يعود أساساً لطابع السرية الذي يحيط بهذه الظاهرة، إذ تعمد أغلب ضحاياه إلى التكتم عن تعرضها للتحرش خوفاً من نظرة المجتمع لها واتهامها دائماً بأنها قد تتحمل جانباً من المسؤولية في تحرش الرجل بها.
ويقرّ “عزّوز” بأن المجتمع التونسي الذي يغلب عليه الطابع الذكوري لا يتضامن بشكل عام مع ضحايا التحرش الجنسي من النساء، حتى الأسرة تعمد إلى إخفاء الأمر حفاظاً على شرف العائلة، كما أن المجتمع ينظر بشكل سلبي لضحايا التحرش ويعتبرهن متهمات لا ضحايا.
وتبرز دراسات مختصّة أنّ “جل المتضررات من التحرش الجنسي لا يلجأن إلى القضاء بسبب صعوبة الإثبات، ذلك أن الكثير من المتضررات لا يستطعن إثبات ارتكابه، لأنه غالبا ما يتم في الخفاء بطريقة مبتذلة يصعب توثيقها، إضافة إلى صعوبة إحضار شهود عيان على ذلك، كما أن أغلبهن لا يملكن الجرأة لتوجيه شكاية ضد الجناة لكون الأمر يدخل في إطار العيب، فالمجتمع الشرقي غالباً ما يحدث خلطاً بين التحرش الجنسي والاغتصاب ناهيك عن النظرة التفاضلية التي تقبل المحرّمات وتشرعها لجنس الذكور وتدحضها وتستعملها حجة لإدانة المرأة”.
راضية الجربي “مسؤولات في وظائف عليا ضحايا التحرّش”
تفاقمت حوادث “التحرّش الجنسي” في مواقع العمل تماماً كما ارتفع نسق العنف والانتحار والجريمة في تونس حسب تصريحات أدلت بها رئيسة “الاتحاد الوطني للمرأة التونسية” راضية الجربى خلال شهر أفريل 2015، مضيفة بالقول إنّ “الملفت للانتباه أنّ مسؤولين كبار في بعض المؤسّسات العمومية تحرّشوا بمسؤولات في وظائف عليا بنفس مقرات العمل”، وأنّ ” 4 تظلمات في الغرض وصلت إلى الإتّحاد من قبل الإطارات العليا المتحرّش بهنّ”، ورأت أنّ “هذا الأمر يدعو الى ضرورة مراجعة التشريعات وإصلاح العقليات خاصة أن هذه الأفعال لم يكن متوقعا أن تصدر من مسؤولين ضد مسؤولات إذ انه كان منتظرا أن تحدث في الطريق العام أو في وسائل نقل، وليس في الادارة.
وذكرت “راضية الجربي” أنه في مجال تنقيح قانون الوظيفة العمومية تعد الكفاءة هي الوسيلة الوحيدة للترقية، وفي نفس الوقت فإنّ بعض المسؤولين يقومون تجاه الموظفات اللاتي يرجعن إليهن بالنظر بممارسات وضغوطات ترقى الى جريمة “التّحرش الجنسي” من لمس وإيحاءات وهو ما يجعل تقييم الموظفات وكفاءتهن في الغالب يتأثر بمدى استجابتهن لهذه الإغراءات، لافتة إلى أنّ هذا الوضع لا يقتضي وجود صرامة أكبر في القانون بقدر ما يستوجب ايجاد آليات للإثبات عند رفع الدّعاوى وعدم الخوف من تتبّع المشتكي عند عدم قدرته على الاثبات عبر الادعاء بالباطل كما ينبغي حماية الشهود على غرار ما هو موجود في التشريعات المتطورة في عدد من الدول.
وكشفت رئيسة “الاتحاد الوطني للمرأة التونسية” أنّ حوادث العنف في تونس في الفترة الاخيرة تنامى بشكل كبير وأنّ “التحرش الجنسي” أحد انواع هذا العنف، موضحة أنّ صعوبة إثبات هذه الجريمة هو السبب في تكرارها وتواترها بسبب الانفلات من العقوبة، وأضافت أن “جلّ الشكاوى التي وصلت الى القضاء لم تنصف المرأة منها قضية موظفة اشتكت سنة 2014 برئيسها في العمل فتم طردها وتراجع الشهود عن الإدلاء بشهادتهم خوفا من أن يجدوا نفس المصير”.
وقالت “الجربي” أن عددا محدودا من المتظلمات أثبتن التّهمة منهن سيدة اشتكت “قاضي تحقيق” في السّنوات الماضية كان قد تحرش بها عبر صور مخلة للحياء وقد تم إعفاؤه من عمله، مضيفة أنّ دراسة أنجزها “الاتّحاد” في السنوات الماضية أثبتت أن بعض الرجال أيضا اشتكوا من تحرّش رئيساتهم في العمل، منتهية إلى أنّ التأكيد أنّ “المرأة ليست دائما ضحية بل تتحول في بعض الظروف الى فاعل وهناك شهادات لعدد من الرجال الذين تعرضوا للمضايقات والتحرش من رئيساتهم في العمل”.
من منظور القانون تجريم التحرش الجنسي
“القانون عدد 73 لسنة 2004 المؤرخ في 2 أوت 2004” يتعلق بتنقيح وإتمام المجلة الجزائية بخصوص تجريم الاعتداءات على الأخلاق الحميدة والتحرش الجنسي، وهو قانون يحمي المرأة في مواقع الدراسة والعمل وداخل المجتمع.
ويتمّم هذا القانون “المجلة الجزائية”، ويدخل عقوبات جديدة بالسجن وبالخطية لكلّ من يعتدي على الأخلاق الحميدة وكلّ مرتكب لتحرش جنسي تكون المرأة أو الطفل متضررين منه، ويضبط هذا القانون مفهوم “التحرش الجنسي”، ويشدّد العقاب عند ارتكابه ضد طفل أو قاصر ذهنيا أو بدنيا، حيث شملت هذه الإضافات “الفصل 226” من المجلة الجزائية، والتي تعتبر تتمّة للمنظومة الجزائية الحمائية للمرأة والطفل ضد كلّ استغلال جنسي أو اعتداء أخلاقي.
ويعرّف “الفصل 226 ثالثا” من المجلة الجزائية مفهوم التحرش الجنسي بـ “الإمعان في مضايقة الغير بتكرار أفعال أو أقوال أو إشارات من شأنها أن تنال من كرامته وأن تخدش حياءه وذلك بغاية حمله على الاستجابة لرغباته أو رغبات غيره الجنسية أو ممارسة ضغوط عليه من شأنها إضعاف إرادته على التصدي لتلك الرغبات”.
ويعتبر “التحرّش الجنسي” في عموم النصّ القانوني انتهاكا لحرمة المرأة الجسدية والمعنوية، ولذلك جرّمه القانون التونسي، ولكنّه في نفس الوقت يحدد المعايير الضرورية لإثبات الجريمة وهي: “التّكرار في المضايقة”، والتصرف بالأفعال والأقوال وحتى الإشارات”، و”الغاية الجنسية لإشباع رغبة الشخص المتعمّد التحرّش أو رغبة الغير”. كما يعدّ التحرش الجنسي جريمة يعاقب عليها القانون بالسجن بعام أو بخطية قدرها ثلاثة آلاف دينار.
مــثــال حيّ: الزميلة الصّحــفيّة “وهيبة عقوبي”
“وهيبة عقوبي” امرأة تونسية في العقد الثالث من العمر وقعت ضحية تحرّش جنسي من قبل رئيسها في العمل، وتم طردها بشكل تعسفي من عملها بعد أن رفضت الرضوخ لنزواته، فما كان منها إلا أن خرجت عن صمتها ونظمت تحركاً احتجاجياً من أمام المؤسسة التي تعمل بها، وقد نشرت “عقوبي” فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي تشكو خلاله من الظلم الذي تعرضت له، كما تقدمت بشكوى رسمية للقضاء التونسي.
“وهيبة” التي خرجت عن المألوف في المجتمع التونسي، وكسرت حاجز الصمت والخوف تحدثت عن واقعة التحرش الجنسي الذي تعرضت له في إحدى المؤسسات الإعلامية التونسية في منتصف ديسمبر 2015، قائلة: “ليس من السّهل أن تعلن أنثى على الملأ في مجتمع ذكوري تعرّضها للتحرش الجنسي، لكني كنت مقتنعة تماماً بأن ما تعرضت له من إهانة لكرامتي وإساءة لشرفي داخل مؤسسة يفترض أنها تحترم موظفيها أمر لا يمكن السّكوت عليه”.
وأضافت الصحفيّة: “كنت مؤمنة بأني على حق، وأنه لابد من وضع حد لتصرفات هذا المتحرش الذي استغل منصبه كرئيس تحرير لمؤسسة إعلامية ليبتز الموظفات ويُرضي نزواته وكبته الجنسي، فلم تسلم من مضايقاته وتصرفاته اللاأخلاقية فتيات أخريات وزميلات لي في العمل، لكنهن اخترن السكوت بسبب الخجل وخوفاً من فقدانهن الوظيفة”.
“وهيبة” أكدت أن وضعها الاجتماعي كمطلقة ساهم في جعلها لقمة سائغة وفريسة سهلة لهذا الرجل المتزوج، الذي سوّلت له نفسه التحرش بها أكثر من مرة، بل والتمادي في الأمر عبر مصارحتها برغبته في إقامة علاقة غير شرعية معها والزواج بها عرفياً، على حدّ قولها.
هذه الشّابة التي تحمل شهادة الأستاذية في الصحافة وعلوم الأخبار ولها خبرة في مجال الإعلام، تنتظر أن يقول القضاء التونسي كلمته في قضية التحرش الجنسي التي رفعتها بالتنسيق مع “نقابة الصحفيين التونسيين”.
الإفلات من العقاب
يفسّر أخصّائي الأمراض النفسيّة والعصبيّة “عماد الرّقيق” الارتفاع المهول لنسب جرائم التحرّش الجنسي خاصّة في مواقع العمل بجملة من العوامل والأسباب أبرزها الإفلات من العقاب ونقص الرقابة في الإدارة التونسية والتسيّب، مؤكّدا أن الوضع الرّاهن يقتضي بالضّرورة “توفير قوانين رادعة وضمانات حتى لا تتكرر مثل هذه المظاهر التي تدل على وجود شذوذ في السّلوك لا يعرف صاحبها كيف يرسم حدودا لنفسه ويقيم ضوابط بينه وبين باقي الموظفين في العمل”.
وقال “الرقيق” إنّ “مثل هذه الظّواهر على المجتمع أن يقاومها ويتغلّب عليها بتغيير العقليات بعيدا عن الأفكار التي لا ترى في المرأة سوى انها جسد بل هي نصف المجتمع ولها أدوار لا بدّ من دعمها في العمل والمنزل والحياة السياسية والحياة العامة وقد اثبتت كفاءتها في كل المجالات”.
ويجمع المتابعون على أنّ “التحرش الجنسي” جريمة منتشرة في كافة أنحاء العالم، ولكنها بدأت تتزايد وتظهر بحدة في كثير من مجتمعاتنا العربية ومن بينها المجتمع التّونسي، وأنّ “تنامي الظاهرة بشكل لافت يقتضي بالضّرورة التوعية بها والعمل على مواجهتها ويحتاج المجتمع جرعات واقية من ظاهرة التحرش على أن نجنب شبابنا من آثاره وذلك بتيسير إشباع الاحتياجات الإنسانية بطرق مشروعة، والحدّ من المواد الإعلامية والإعلانية المثيرة للغرائز، كما يجب على النواة الأسرية والتربوية أن تزرع في أبنائها ضوابط الضمير والضوابط الاجتماعية والضوابط القانونية للحفاظ على التوازن الصحي الأخلاقي الاجتماعي والدّيني.