انتاج الفلّين (الخفّاف) : قطاع مربح ذا قيمة اقتصاديّة واجتماعيّة وبيئيّة، وصعوبات تحتاج إلى حلول
أعلن خلال سنة 2016 الجارية عن انطلاق تنفيذ مشروع كوري تونسي لتجديد غابات “الفلين” (الخفّاف) بمعتمديتي “عين دراهم” و”فرنانة” من ولايتي جندوبة، حيث شرعت الوكالة الكورية الجنوبية للتعاون الفني “كويسا” والادارة العامة للغابات والمندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بجندوبة في تنفيذ بنود الاتفاقية الممضاة في 19 فيفري 2014 والمتعلقة بإنجاز مشروع نموذجي بحثي تنموي لتجديد غابات الفلين بالجهة بتمويل كوري ناهزت قيمته 2 مليوني دولار أمريكي.
ويهدف هذا المشروع الذي تمتد فترة تنفيذه على 4 سنوات الى إحكام التصرّف المستدام في الموارد الغابية وتجديد غابات الفلين التي انتهى عمرها الافتراضي، وإنعاش المنظومة البيئية، وبعث منابت لانتاج الفلين، وتحسين دخل السكان المحليين عبر تمويل مشاريع صغيرة على غرار تربية النحل وزراعة الاشجار المثمرة وتقطير الزيوت وصناعة التحف وغيرها من المشاريع التي تتماشى وخصوصية الجهة حسب ما تضمنته الاتفاقية المبرمة بين الطرفين.
جندوبة تساهم بـ 90 بالمائة من الإنتاج الوطني
تعتبر مادة “الخفّاف” من أهم المنتوجات الغابية الأساسية التي توفرها غابات ولاية جندوبة حيث يقدر معدل إنتاجها السنوي بـ 70 ألف قنطار وتساهم بنسبة 90 بالمائة من مجمل الإنتاج الوطني، حيث تتوفّر الولاية على 60 ألف هكتار من الغابات بما يعادل 50 بالمائة من المساحة الغابيّة بكامل جهة الشمال الغربي.
ويوجّه هذا المنتوج بنسبة 90 بالمائة إلى التّصدير منها 70 بالمائة نحو بلدان أوروبا الجنوبية على غرار البرتغال الذي يستقبل وحده 59 بالمائة من الإنتاج ثم ايطاليا بنسبة 11 بالمائة، ويضطلع إنتاج “الخفّاف” في الجهة بدور محوري في تنشيط الحياة الاقتصادية والاجتماعية إذ يوفّر حوالي 4800 موطن شغل وقرابة 150 ألف يوم عمل في السنة، ويقوم معمل الخفاف بطبرقة بتحويل كامل إنتاج الجهة إلى منتوجات متنوعة كالسّدادات والاسطوانات وحبات الخفاف.
ويتصدّر موسم جني “الفلين” (الخفّاف) اهتمامات وأنشطة سكان المنطقة الواقعة شمال غربي البلاد، فبعد أن كان حصاده من التقاليد التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم، تحوّل شيئاً فشيئاً إلى مصدر للرزق يؤمن لقمة العيش لهم، حيث يبدأ موسم جني الفلين مع موفي شهر ماي ويتواصل حتّى شهر ديسمبر من كلّ عام، وتشرف عليه الوكالة الوطنية لاستغلال الغابات، موفرة فرص عمل لنحو 3800 شخص طيلة الموسم.
واستنادا إلى الوكالة الوطنيّة لاستغلال الغابات فإنّ عائدات بيع مادّة الفلّين تقدّر بـ 9 ملايين دينار سنويّا، ويبقى الخفاف المنتوج الأهم من الناحية الاقتصادية فهو يوفر لوحده أكثر من 50 بالمائة من المداخيل الجمليّة الناتجة عن بيع منتجات الغابات التونسيّة، علما وأن غابات الفلين في تونس تصنف من بين المنظومات القليلة التي حافظت على العديد من خاصياتها الطبيعية.
وإلى جانب “الخفاف” توفر غابات الفلين عديد المنتجات الأخرى ذات القيمة الاقتصادية العالية أهمها الخشب بنسبة 30 بالمائة تقريبا من مجموع الإنتاج ونحو 4 بالمائة من الإنتاج الجملي للعلف إلى جانب عدة أنواع من الفطريات ومنتجات أخرى كالزيوت الروحية.
صعوبات تحتاج حلول
يجمع أهل الاختصاص أنّ عائدات إنتاج “الخفّاف” يمكن مضاعفتها أكثر من مرّة بما يعود بالنفع على فئة أوسع من أهالي الجهة وذلك في حال تمّ فضّ إشكاليّات يمرّ بها القطاع، من ذلك الحدّ من النزوح وخلق فرص عمل للسكّان بعد الانتهاء من موسم جني الفلين خاصّة أنّ كثيرا منهم يلتحقون بالعاصمة وبعض المدن السّاحليّة بحثا عن عمل في حضائر البناء وفي بعض الأعمال الهامشيّة.
ووفق إحصائية المندوبية الجهوية للتنمية يتمركز 3 أرباع سكان جندوبة في الغابات والأرياف، وهي مناطق تعاني من الفقر وارتفاع نسب البطالة، الأمر الذي يقول الخبراء أنّه يستوجب تدخّلا عاجلا من السلط المركزيّة والمحليّة لإعانة السكّان ومدّهم بمساعدات عينيّة وتوفير موارد رزق من قبيل إدماجهم في برامج تنمويّة من قبيل توفير رؤوس أغنام وأبقار للمحتاجين قصد العناية بها في إطار برنامج “تربية الماشية” الخاصّ بالمناطق الريفيّة، وكذلك تحسين مساكن الأهالي وجعلها تليق بالسكن البشري.
شجرة “الخفّاف”: إشعاع متوسّطي وفوائد بيئيّة وطبيّة جمّة
شجرة الفلين بطيئة النمو، وقد تعيش 200 عام أو أكثر، ما يسمح بنزع لحائها بمعدل 16 مرة على مدى حياتها، أما النزع الأول فلا يحصل إلا بعد 25 عاماً، عندما يبلغ محيط الجذع 70 سنتيمتراً، تساعد أشجار الفلين في حفظ التربة بحمايتها من التعرية بفعل الرياح، وتزيد نسبة ارتشاح مياه الأمطار وتجدد المياه الجوفية، وتغطي غابات الفلين نحو 2.7 مليون هكتار من مساحة البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا والجزائر والمغرب وتونس، وإضافة الى توفير مصدر دخل حيوي لكثير من المزارعين، تدعم هذه الغابات واحداً من أعلى مستويات التنوع البيولوجي بين الموائل الغابية، بما في ذلك أنواع معرّضة للخطر عالمياً مثل “الوشق الأيبيري” و”النسر الأيبيري الامبراطوري” و”الغزال البربري”.
ومعلوم أن منطقة البحر المتوسط هي من “المواقع الساخنة” الـ 25 في العالم التي تتميز بمستوى عال من التنوع النباتي والحيواني، وفيها نحو 13 ألف نوع نباتي متوطن، وهو ثاني أكبر رقم في العالم بعد جبال الأنديز الاستوائية، وقد تؤوي غابات الفلين 135 نوعاً في كل متر مربع، ولكثير من هذه الأنواع استعمالات طبية أو عطرية أو غذائية.
قيمة اقتصادية هامّة
بالمقارنة مع سدادات القناني المصنوعة من الألومنيوم والبلاستيك، تعتبر السدادات الفلينية أفضل بديل من حيث استهلاك الطاقة وانبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري، والمساهمة في تحميض الغلاف الجوي، وفي تكوّن الأكاسيد الكيميائية الضوئية، وفي تشبّع المياه السطحية بالأملاح المعدنية، وفي إنتاج النفايات الصلبة، فضلا عن احتجاز أشجار الفلين للكربون أثناء عملية التمثيل الضوئي يؤدي الى نموها وإنتاج الأوكسيجين والسلولوز.
ويذهب الخبراء إلى أنّه مع تناقص الطلب على الفلين الطبيعي، قد تجبر الضغوط الاقتصادية المزارعين على التخلي عن الادارة الفعالة لغاباته بما يؤدي الى هجرة كثيفة من الأرياف، واختلال النظم الايكولوجية التي تحمي التنوع البيولوجي في هذه المناطق، فضلاً عن خسارة واحد من أفضل الأمثلة على نظام متوازن يجمع بين الإنسان والطبيعة. فما دامت للغابات قيمة اقتصادية للمجتمعات المحلية، سيبقى الناس يعتنون بها.
وتوفر غابات الفلين فرص عمل للمجتمعات المحلية وتضمن لها البقاء، وهناك أكثر من 100 ألف نسمة في البلدان المتوسطية السبعة المنتجة للفلين يعتمدون على هذا المنتوج بشكل مباشر أو غير مباشر لكسب رزقهم، والفلين هو مصدر حيوي للعمالة الريفية الاقليمية.
ويتم إنتاج أكثر من “15 بليون سدادة” فلّين كل سنة تباع في أنحاء العالم، وتستأثر سدادات القناني بنحو 70 في المئة من إجمالي قيمة سوق الفلين، وهكذا فإن هذه السوق تؤدي دوراً حيوياً في الحفاظ على القيمة الاقتصادية للفلين وغاباته.