أمراض الصّــحافة: من أسباب اجتماع السّلطة بالمال
كانت الصحافة ولم تزل كذلك مهنة آراء ومواقف وكاريزما، كان من يدخلها هو “قلادياتور”، ذاك المقاتل الأسطورة دون نزع صفاتها، بل ندرة مكونات الصحفي تجعله خليطا جمعه من سابع المستحيلات، فهذا الصحفي مطلوب منه أن يناطح السحاب من ناحية الفصاحة وامتلاك ناصية اللّغة، أن يكون واسع الثقافة ملمّا بغوائل التّاريخ، أن يكون مطّلعا على كلّ كبيرة وصغيرة وخاصّة أن “لا يخاف لومة لائم عند قول الحقيقة ونقل الواقع”.
وكان بواكير أهل الصحافة هم من يبادرون ببعث جرائدهم الخاصّة، يقترضون ويتداينون ويفتحون صحيفة مقرّها بالكاد يضاهي محلّ عطاء أو تجارة صغيرة، الصحافة طيلة قرون بل عقود كان مهنة شعارها الكبير “الرأي قبل شجاعة الشجعان”، كان ميثاقها العريض”تجوع الحرّة ولا تأكل بثدييها”، لذلك ارتفع صوت الحقّ وأبلغ صوت المكروب ولم تغلق فوهات المحابر وسكبها على مناصرة الأوطان وإجلاء الجرائم وفضح الظلم.
منذ بداية الألفيّة الثالثة تغيّرت حال “صاحبة الجلالة” وانتقلت إلى وضعيّة “القهرمانة” التي ينضوي تحتها كلّ من هبّ ودبّ وتحوّلت الصحافة، بجلالة قدرها” من “سوق عكاظ” إلى “سوق للخردة”، واستولى من استولى بماله ونفوذه على هذه الجريدة أو تلك الصحيفة، وانتقلت المهنة وأهلها من إلى حال الاستغلال والدعاية لهذا الشخص أو ذاك التيّار أو تلك الجماعة، هيمنة المال ونفوذ السياسة حوّلوا “الصحفي” إلى دمية تتحرّك في عرض مسرحي هزلي – درامي لتلك العرائس الكرتونيّة.
سياسة ممنهجة وأخرى استباقيّة تمّ فرضها كرها وغرضها “احتواء الإعلام النظيف والهادف” والاستحواذ على “إعلام الدولة” الذي تنفق عليه المجموعات الوطنيّة في جميع أرجاء الأرض، اليوم غير مرغوب في صحافة تخرج عن بوتقة خطاب السلطات والحكومات مهما كلّف الأمر، فالقوى السياسية والحزبيّة عبر العالم لا تقبل البتّة فكرة “الحياد” أو “النقد” أو معيار “الرأي والرأي الآخر”.
تسييس الصحافة أمر أمسى مكشوفا للعيان ولم يعد مغلّفا كما كان إلى حدود بداية الألفيّة الثالثة، وقبيل اندلاع ما يعرف بـ “ثورات الربيع العربي”، هذا التّسييس الذي جرّ إعلامنا بالخصوص إلى “مزرعة السيّد” وكذلك إلى دكاكين للسمسرة والمتاجرة بقضايا الشعوب والأوطان من خلال بيع الكلام والخطابات والتنظير و”التنبير” دون إيلاء الاعتبار لأخلاقيات المهنة الصحفيّة أو حتّى الوقوف عند كلّ ما يتعلّق بكرامة مزاوليها.