مكافحة الفساد: هل هي زوبعة في فنجان؟؟
يبدو أنّ هناك نيّة من الجهات الرسميّة في الشّروع في تنفيذ استراتيجيّة واقعيّة لمقاومة الفساد الذي استشرى في البلاد وأصابت علّته كلّ القطاعات، وزارة أحدثت للغرض ومنظومة حكوميّة للتبليغ يتمّ الإعداد لها، وأنظمة الكترونيّة يجري العمل على تركيزها من أجل وضعها على ذمّة المبلغين على الفاسدين، وأكثر من ذلك اتفاقيّات تعاون مع دول متقدّمة ورائدة في مجال محاربة الفساد ومقارعة المفسدين ممثلة بالخصوص في دولة “كوريا الجنوبيّة” التي وفرت لتونس غطاء ماليّا هامّا لتجسيد هذا المشروع تبلغ قيمته المليارات.
وعقدة المعضلة هنا لم تعد في بادرة السلطة التي لم تكن موجودة في السابق بل في الفاسدين أنفسهم، فهل سيرضي ما تفعله الحكومة بارونات الفساد والمهربين الذين قال “وزير التجارة” الحالي أن السلطات ستفاوض “كبارهم”، الأمر الذي يؤكّد وجودهم وقوّة تأثيره وسيطرتهم على مفاصل حيويّة سواء في الدولة أو في الأسواق وفي الشّارع أيضا؟؟ هل سيرضى من كان مسؤولا ونجح في مراكمة ثروة من الاختلاس والتحيّل ونهب أموال المجموعة الوطنيّة أن يرجعها إلى خزينة البلاد المفلسة؟؟ هل سيستسلم من تحوّز على المليارات وأودعها في بنوك تونس وفي الخارج ثمّ تحوّز على الهكتارات من ممتلكات العموم والخواصّ، هل سيستسلم إلى وزارة “الحوكمة ومقاومة الفساد” أو إلى الهيئات التي تأسست لمحاربة المفسدين وملاحقتهم؟؟
تساؤلات تثير تساؤلات أخرى من قبيل من تسوّل له نفسه من صغار الموظفين ومن أواسطهم أن يبلّغ عن مدير أو وزير تجاوز أو اختلس أو فعل فعلة لا توافق المراسيم ولا تطابق القوانين؟؟ فالقوانين الحامية والضامنة للسّلامة ما زالت قيد التنظير وفي خبر “مازال” فالمطلوب اليوم ليس فقط توفير التمويلات والتقنيات لمحاربة ظواهر الارتشاء والتحيّل والسرقات بأنواعها والتحرّش والابتزاز خاصّة في القطاع العمومي بل المطلوب توفير حماية حقيقيّة للمبلغين عبر قوانين تقف في صفّهم وتدرأ عنهم ردّات فعل هؤلاء “الفاسدين”، باعتبار أنّ المبلّغ لن يكون ذا منصب أو جاه أو صاحب أعمال أو ماسك بمسؤوليّة كبرى، بل سيكون مواطنا أو موظفا تتأرجح رتبته بين “المتواضعة” أو “المتوسطة”، لذلك دون ضمانات قانونيّة فلا محالة سيجد هذا المبلّغ نفسه إمّا مطرود بـ “ستوفيدة” أو مسجون بتهمة جاهزة وزائفة، باعتبار سهولة ذلك على ما أفسد وبالغ في الإفساد.
المواطن الذي يعدّ المستهدف رقم 1 من كلّ أشكال الفساد التي تسجّل في الإدارات العموميّة على اختلافها سواء طوعيّا أو عبر الإكراه فإنّه تقبّل بارتياح “المكسب الجديد” ولكن في المقابل يتساءل حول الضمانات التي تحفّزه على استخدام منظومة الرقابة الإلكترونيّة وذلك بالنسبة لحماية سريّة معطياته الشخصيّة عند التبليغ والإخبار عن عمليّات الفساد التي يمكن أن يتورّط فيها كبار المسؤولين وإطارات الدّولة، يتساءل عن النصوص القانونيّة التي تحميه ماديّا ومعنويّا ومن سيحفظ له حقّه إن أعتدي عليه أو سجن على خلفيّة ما أخبر به وأعلم به السلطات.
“المواطن المخبر” بدوره يتساءل عن مدى جديّة التعامل مع ما يرد على المنظومة من شكايات ومعلومات، وماهيّة المعايير التي من الضروري الأخذ بها لاحتساب الفعل من قبيل “الفساد” ومهنيّة المعلومات والتفاصيل والوثائق التي ستؤخذ بعين الاعتبار، “المواطن المخبر” يستفسر، والحيرة آخذة منه كلّ مأخذ عن اللّجان المختصّة التي ستنظر في الشكاوى والبلاغات المرتقبة وعن الجهة التي ستبتّ في مضامينها إن كانت حكوميّة أو قضائيّة؟؟؟
الأنكى والخطير في الظرفية الراهنة أنّ جميع المؤشرات تكشف بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ الفساد عمّ وزادت وتيرته خلال السنوات الأخيرة، وليس من دليل أوضح أكثر من ورود 80 ألف رسالة نصيّة للتبليغ عن حالات فساد تمّ إرسالها إلى موقع “الواب” الرسمي المحدث للغرض وذلك في ظرف 3 أسابيع فحسب من وضعه على ذمّة العموم، وهو ما يؤكّد أنّ بلادنا أمست تسبح في الفساد، ويلمس التونسيّون عن قرب تنامي ظواهر التهريب والتجارة الموازية والاحتكار والتحكّم في مسالك التوزيع ممّا أفرز أباطرة جدد في مجال المال والأعمال لا تعرف مصادر أموالهم التي راكموها في ظرف سنوات قليلة لم تتجاوز عمر الثورة.
ويظلّ كسب الحرب الرسميّة المعلنة أعلنت رهين القدرة على مقارعة الفاسدين فإن لم يحصل فستبقى الأمور على ماهي عليه بل سيزداد الطين بلّة، ويصبح موضوع مقاومة الفساد من قبيل “زوبعة في فنجان”.