مــلف الفسفاط : برامج الحكومات ورهاناتها تعصف بها معطيات الواقع الإجتماعي وهشاشة البنية التحتيّة وسوء التصرف الإداري والمالي
ننطلق من إقرار رئيس الحكومة الجديد يوسف الشاهد بأنّ نسبة من مداخيل الفسفاط بشركة فسفاط قفصة لفائدة أهالي الحوض المنجمي، لنسلّط شيئا من الضوء على هذا الملفّ الحارق والحسّاس الذي ما ينفكّ يزداد تعقيدا سنة بعد أخرى بسبب سياسات التنظير التي لم تكن قابلة للتنفيذ على أرض الواقع منذ عقود، وخاصّة بعد الثورة.
خــسائر بالمليارات
كشف الرئيس المدير العام لشركة فسفاط قفصة والمجمع الكيميائي رمضان سويد يوم السبت 5 مارس 2016، أن حجم الارباح التي فوتتها تونس في قطاع الفسفاط منذ سنة 2010 تناهز 5 آلاف مليون دينار، لافتا إلى أن انتاج الفسفاط تراجع بحوالي 60 بالمائة اذ بلغ سنة 2015 نحو 3.2 مليون طن وانخفض التحويل الى 2.5 مليون طن ونقل الفسفاط من 7.3 مليون طن خلال 2010 الى 2.3 مليون سنة 2015.
وأوضح سويد أن الشركة تعمل على استرجاع النسق العادي للإنتاج والارتقاء به الى حدود 8 مليون طن من الفسفاط التجاري وتحقيق التوازنات المالية للمؤسسة ومواصلة انجاز المشاريع.
بدوره أشار وزير الطاقة والمناجم منجي مرزوق إلى “ضرورة تشخيص واقع قطاع الفسفاط للخروج بتوصيات عملية واصلاحية تساعد على تجاوز الوضع الصعب الذي يعيشه نشاط انتاج وتحويل الفسفاط والأسمدة”.
ورأى الوزير أن “نجاح الاصلاح يستدعي اعتماد مقاربة تشاركية مؤكدا على ضرورة الاتفاق حول عدة مسائل هامة منها التلوث والمخطط العملي لمعالجته والمسؤولية المجتمعية وعمليات الانتداب”.
بوادر الإحتقان
بدأت معضلة إنتاج الفسفاط التّونسي منذ التوقّف شبه التامّ لاستخراجه في مستهلّ سنة 2012 جرّاء تفاقم الاحتجاجات الاجتماعية في مناطق الإنتاج التي تصل معدلات البطالة في بعض مناطقها الى 50 بالمائة، وقتها صرّحت مصادر رسميّة أنّ نسبة إنتاج مادّة الفسفاط لم تتجاوز 2.2 مليون طنّ إلى حدود أكتوبر حيث توقّعت المصادر ذاتها أنّ نسبة الإنتاج لن تتخطّى نسبة 30 بالمائة لتتوالى بعد ذلك الخسائر الماليّة الكبرى بسبب تعطّل ماكينة الإنتاجيّة.
وقد شكّك عديد الخبراء الاقتصاديين والإستراتيجيين في إمكانيّة تحقّق توقّعات وزير الصناعة والطاقة والمناجم زكرياء حمد عندما أعلن في 1 جوان 2015، على هامش افتتاح الدورة الرابعة للصالون الدولي للشراكة الصناعية والتجديد، أّن انتاج تونس من الفسفاط سيبلغ 4 ملايين طن بنهاية سنة 2015 بعد عودة القطاع الى النشاط عقب توقّفه بسبب الاحتجاجات الاجتماعية.
وكان الوزير أكّد عند إعلانه عن الإجراءات الخمسة الاستعجالية لمائة يوم عمل للحكومة
أنّ من بين أهم النقاط النهوض بقطاع المناجم وذلك بالعمل على بلوغ إنتاج 6.5 مليون
طن من الفسفاط خلال السنة الحاليّة وتطوير مسألة الإنتاج في عديد المناطق منها توزر ونفطة والمكناسي لا فتا إلى أنّ الوزارة تطمح الى تحسين نسق الانتاج بهدف التموقع من جديد في السوق العالمية للفسفاط التي فقدت فيها تونس العديد من الحرفاء جرّاء تذبذب الانتاج خلال السنوات الاخيرة.
لكن يبدو أن توقعات وزير الصناعة والطّاقة والمناجم لم تكن في محلّها على اعتبار أنّ النّصف الأول من السنة الجارية لم يكن في مستوى تلك التوقعات بتحسن الإنتاج في مجمل القطاعات الأساسية في الاقتصاد التونسي فقد تعطلت مجمل الأنشطة وتعثرت ومن بينها إنتاج الفسفاط حيث انجرت عن تعطله أضرار مازالت حصيلتها غير ثابتة.
ورغم استئناف شركة فسفاط قفصة لنشاطها العادي منذ حوالي 3 أشهر، وتحديدا منذ 1 جوان 2015 بعد القرارات التي خصت بها الحكومة الشّركة ٬ لم يبلغ فيه إنتاج الفسفاط بعد ذروته كما كان مبرمجا له بشكل جعل فيه تدهور هذا القطاع يتواصل على عديد الأصعدة حيث كشف هذا التباطؤ المتواصل في انتاج الفسفاط مدير عام المناجم الصّادق بن عثمان في تصريح صحفي ذكر فيه أن نسبة الإنتاج رغم الإجراءات الحكوميّة المتخذة مازالت تتراوح في الوقت الراهن بين 50 و60 بالمائة، وهو ما أكده أيضا علي الماجدي الكاتب العام المساعد للاتحاد الجهوي للشغل بقفصة الذي أوضح أن عّدة عراقيل ومشاكل ما زالت تحول دون بلوغ إنتاج الفسفاط ذروته مقارنة بالسنة المرجعية 2010 حيث بلغ الإنتاج حينها 8.4 مليون طن.
أزمة في النّقل والماء والانتدابيات العشوائيّة ومشاكل عقاريّة
تشكّل أزمة النقل من أبرز المشاكل التي يعاني منها إنتاج الفسفاط، إذ أن كلّ المؤشرات تؤكّد أنّ نقل هذه المادة إلى كل من المجمع الكيميائي بالمظيلة وقابس تسير بنسق بطيء وذلك بسبب اهتراء أسطول النقل بالشركة التونسية للسكك الحديدية وهو ما دفع بالشركة أكثر من مرّة إلى تقديم طلب عروض قصد تجديد الحاويات.
وتبرز المعطيات الرقميّة الرسميّة أن عدد قاطرات الشركة التونسية للسكك الحديدة التي كانت تنقل الفسفاط إلى مواقع التكرير هي 12 قاطرة في حين أن هذا الرّقم تقلص بعد ذلك ليتراوح بين 5 و6 قاطرات٬ الأمر الذي يجعلها غير كافية لنقل الفسفاط المستخرج إضافة إلى ذلك فإنّ شركة نقل المواد المنجمية التي تّم إحداثها سنة 2011 قصد المساعدة على نقل الفسفاط إلى المجمع الكيميائي بقابس والمظيلة وصفاقس ولاستيعاب عدد هام من المعطلين عن العمل٬ انتدبت 1600 عون في حين أن طاقة استيعابها لا تتجاوز 800 عون مما أفقدها توازنها وأصبحت غير قادرة على القيام بدورها على الوجه الأكمل علاوة على أنّ الشركة لجأت إلى شركات المناولة للمساعدة على نقل الفسفاط.
لذلك فإنّ عديد المعضلات من بينها النّقل وانقطاع الماء المتكرّر وأيضا الانتدابيات العشوائية أثقلت كاهل شركة الفسفاط ما جعلها تتكبد خسائر كبيرة ومستمرّة إذ أن طاقة استيعاب الشركة بكل فروعها يبلغ 9000 عون في حين أن العدد المنتدب إلى حّد اليوم بلغ 26 ألف في مقابل مستوى للإنتاجيّة مازال يتأرجح بين 50 و60 بالمائة رغم الإجراءات الحكوميّة التحفيزيّة ومشاكل بالجملة تحول دون بلوغ ذروة الإنتاج المأمولة خاصّة في ظلّ تواصل بعض الإشكاليّات العقاريّة التي مازالت عقبة أمام تحرير إنتاج مادّة الفسفاط بالكامل وذلك رغم الأشواط التي قطعتها الحكومات المتواترة لفضّ هذا الإشكال وذلك على خلفيّة وجود شبهات في التسيير الإداري والمالي لشركة فسفاط قفصة.
ملفات “الفساد الاداري والمالي”
يظهر أنّ الاشكاليات الاجتماعية والعقارية واللوجستية ليست وحدها التي أدت الى تعطيل انتاج الفسفاط ولكن للفساد الاداري أيضا بصمته ودوره في ذلك، حيث أعلن وزير الصناعة و الطاقة و المناجم زكرياء حمد، على هامش ندوة انتظمت بتونس العاصمة في شهر جوان 2015 بعنوان” المؤسسات التونسية و تحديات الشفافية و التصرف النزيه:” أنّه سيجري فتح تحقيق معمّق في ملفات شركة فسفاط قفصة بعد المطالبة بالتحقيق في ملفات الفساد بها مشيرا إلى أنّ فتح التحقيق يندرج في إطار حزمة الإجراءات الاستعجالية التي أعلن عنها رئيس الحكومة الحبيب الصيد لفائدة ولاية قفصة.”
ويرى محلّلون ومتابعون لمجال الفسفاط وللأوضاع في منطقة الحوض المنجمي بشكل عامّ أنّ الفساد الإداري والمالي جرّاء سوء التصرّف في تسيير الشركة وفي مواردها طيلة عقود يرتبط بدوره أشدّ بفقدان الارادة السياسية في ايجاد حلول جذرية بالتوازي مع الغياب الكلي للحلول التنموية الفعلية إلى جانب حالة التهميش وما أفرزته كثرة الوعود والالتزامات التي بقيت حبرا على ورق ولم تنفّذ.
تهريب الفسفاط منذ سنتي 2012 و2013
وإلى جانب معضلة الفساد الإداري والمالي لـ “الشركة”، يدور الحديث بين الفينة والأخرى عن حوادث تتعلّق بتهريب مادّة الفسفاط إلى القطرين الليبي والجزائري لا سيما إلى الجزائر بعد التشديدات الأمنيّة مع الجانب الليبي، وممّا يذكر من عمليّات التهريب تمكّن الوحدات الامنية على مستوى طريق المطوية من ولاية قابس من حجز 3 شاحنات تحمل 30 طن من مادة الفسفاط كان سيتم تهريبها من القيروان باتجاه ليبيا.
كما قام الأمن الجزائري في تلك الفترة بإحباط عمليّة تهريب 15 قنطارا من الفسفاط التونسي الذي يستعمله الفلاحون في تسميد التربة الخاصة بزراعة البطاطا بولاية الوادي المحاذية للحدود التونسية، حيث تم اكتشاف مخزن يستغله المهربون لتجميع الفسفاط المهرب من تونس قبل توزيعه على المزارع والزبائن.
ورغم الإجراءات الحكوميّة الاحترازية للتصدّي لهذه الظاهرة فإنّ بعض وسائل الإعلام الجزائريّة تؤكّد استمرار عمليات تهريب الفسفاط التونسي ولو بأشكال مختلفة، حيث لاحظت يوميّة “الشروق” الجزائريّة أن الفسفاط يخضع في تسويقه لإجراءات متعلقة بالأمن من خلال مزجه ومنع بيعه صافي، كونه يستغل في تصنيع المتفجرات من طرف الجماعات الإرهابية.
ويذكر أيضا أنّ وحدات الأمن التونسي والجزائري أحبطت في مرّات عديدة عمليّات لتهريب مادتي “الدّاب” (DAP) و”الحامض الفوسفوري” المتصلتين بمادّة الفسفاط الى الجزائر التي ذكرت بعض وسائل اعلامها المحلية انها تسعى لتوثيق تعاونها مع تونس في قطاع الفسفاط.
الجزائر تتجه نحو مناجم الفسفاط التونسية
كشفت يومية “الشروق” الجزائرية يوم 1 جوان 2015، أن الحكومة الجزائرية تعتزم دخول سوق المحروقات والمعادن التونسية والاستثمار في مجال المناجم، مشيرة إلى شروع وزارتي الطاقة والصناعة والمناجم في مفاوضات مع الحكومة التونسية للحصول على صفقات استغلال الفسفاط وتحديدا مشروع “ساقية سيدي يوسف” الذي لايزال مجمدا، حيث ستتم دراسة الملف في المستقبل خلال زيارات مرتقبة لمسؤولين جزائريين إلى تونس.
وبحسب مصادر “الشروق” فإن الحكومة الجزائرية تسعى إلى تطوير قدرات التنقيب والاستكشاف في مجال المعادن عبر الشروع في مفاوضات مع المسؤولين التونسيين للحصول على صفقة التنقيب عن الفسفاط المتواجد بمنطقة الكاف الحدودية مع الجزائر والتي من المرجّح أن تكون بالشراكة بين شركة “سوناطراك” الجزائرية وطرف تونسي.
وتركّز حكومة الصّيد حاليا على انجاز الخطة الخماسية للتنمية وستتضمن مشاريع تنموية لصالح الولاية المنجمية علما وأنّ الخسائر التي تتكبّدها تونس يوميا جراء توقف انتاج الفوسفاط تقدر بـ 10 ملايين دينار، إضافة إلى خسارة أسواق استراتيجية مثل الهند والاتحاد الأوروبي، وجدير بالذّكر أنّ بلادنا تحتلّ المرتبة الخامسة (5) عالميا من انتاج الفسفاط الذي تستخرجه ويتم استخدامه كمادة خامّ في عدد من المنتجات الزراعية والصناعية، ويجري استخراجه منذ أكثر من 100 عام.
وتحتاج تونس في الاشهر الستة المتبقية من عام 2015 الى تحسين اداء جل قطاعاتها لتحسين نسبة النمو التي كانت متدنية في الثلاثي الاول والثاني وفق المؤسسات المالية العالمية والخبراء التونسيين بتوقّع في إجمالي نسمو العام بـ (1.7 بالمائة) حيث تم وضع نسبة (3) بالمائة كاحتمال نمو للعام ككل وهو ما قد لا يتحقق.