ملف خاصّ : الإستثمار في الثقافة… تحدّي لحكومة الشّاهد أم رهان؟؟؟
ربّما المعادلة التي توازي بين الاقتصاد والثقافة تبدو، للوهلة الأولى، ولبعض الأذهان صعبة الفهم والاستيعاب، وربّما سيثير الطّرح نزعة من التشكيك لدى البعض بأنّ الاستثمار في الثقافة هو تشييء للإبداع وتحويل الفنّ والخلق والابتكار إلى تجارة وعمليات بيع وشراء، ولكن في الحقيقة استثمار يجلب المنفعة الماديّة للمبدع والدولة والشعب ويسهم في إثراء الحركيّة الثقافيّة ويزيد في إخصاب بويضات الفنون حتّى يتناسل الإبداع والفكر و تشعّ الألوان زاهية في مدينة المسارح والفنون والأنوار، هي ذاتها مدينة الاقتصاد والتجارة والعمارة، لا ضير ولا اختلاف.
السنوات الأخيرة حملت لنا كثيرا من رياح التغيير، وظهرت آراء جديدة أصبحت تدعم فكرة أن الاستثمار في القطاع الثقافي قد يكون، بقليل من الذكاء والتخطيط، أنجع الحلول للنهوض بالاقتصاد والخروج به من الأزمة، مثل هذه القناعات تعززت بعد ظهور دراسات كثيرة ربطت بين زخم الحركة الثقافية في بلد ما وانتعاشه الاقتصادي، ليس فقط ما يخص الصناعات الثقافية الرائجة في أميركا وأوروبا كصناعة الأفلام والموسيقى والكتب، لكن أيضا ما يخص التراث الشعبي، والمعالم الأثرية، والبنى التحتية الثقافية كالمسارح، والمتاحف، والمكتبات ودور العرض.
هذه الفترة تستعدّ حكومة يوسف الشّاهد إلى تسخير الظروف الماديّة واللوجستيّة وتعمل على توظيف الإمكانيات البشريّة المناسبة من أجل إنجاح المؤتمر الدولي للاستثمار في موفّى شهر نوفمبر المقبل، هو جدث عالمي سيلقي بأضوائه هنا وهناك بلا شكّ لكن الحدث نفسه لا ريب هو فرصة لا تتاح كلّ يوم ولا حتى كلّ عام، فرصة نادرة تستوجب حرفيّة التعامل معها، واستغلالها استغلالا مفيدا يجمع كثيرون على أنّ الحكومة لن تجد مفتاحا سريّا ولا سحريّا لفتح أبواب الاستثمار والتعمير والإنتاج خير من مفتاح هذا المؤتمر، حيث دعا هذا الفريق “الشاهد” وحكومته إلى إيلاء “الاستثمار الثقافي” الأهميّة المطلوبة، وذلك بدعوة من يهمّه الأمر من التونسيين والأجانب، والراغبين في الاستثمار في مجالات المسرح والسينما والرسم والنحت والموسيقى، وفي شتّى الفنون، بدعوتهم إلى المشاركة في المؤتمر والدلو بدلوهم والاستثمار في البلد في هذا النطاق.
مدينة الثقافة.. مشروع القرن
اليوم يعود تشييد “المدينة”، هذا المعلم الثقافي إلى واجهة السّاحة الثقافيّة والوطنيّة، مدينة لطالما حلم المثقفون والمبدعون بتشييد صرحها، أمّا اليوم فهم، لعمري، أشدّ شوقا توقا إلى استكمال إنشاء هذا الفضاء، فضاء يجمعهم ويطلقون في فنائه وبين جدرانه العنان لقرائحهم المتفتّقة وأفكارهم النّاضحة وأعمالهم الإبداعيّة بما من شأنه أن يخلق ثقافة ملؤها الإبداع الحرّ وقوامها النقدي الموضوعي والتشخيص الجدّي للواقع.
الكثير والكثير تتطلّع إليه النخبة المثقفة من صرحهم المنشود يحدوهم أمل منقطع النّظير في إنجاز ثورة إبداعيّة نوعيّة في مجالهم يكون منطلقها مناخ ملائم يعبق بحريّة التعبير ويفوح بالاستقلالية ويطفح بالمسؤوليّة، مناخ يغيب عنه منطق الوصاية وتوجيه النّاضجين للقاصرين، عقليّة تأباها ولم تعد تبيحها تونس في حلّتها الجديدة.
يقول عديد المثقفين والمبدعين في تونس أنّ “مدينة الثقافة” ستكون حتما منارة وسوقا كبيرة لترويج “المنتوج الثقافي التونسي” وكذلك اقتناء “المنتوج الثقافي الأجنبي” أو هو فضاء للتبادل يمكن الاصطلاح على تسميته بمجال “التجارة الثقافيّة”.
رغبة جامحة تحدو نخبة واسعة من رجالات الفكر والثقافة والفنّ في تونس لتعود تونس كما كانت عبر التاريخ التليد للحضارة البشريّة مهدا ثقافيا نفيسا يراكم مكتسبات ثقافتنا عبر العصور والأزمان، مهد لن يتجسّد بالفعل إلاّ من خلال توخي خيار وطني ورسمي يعتمد “الاستثمار في الثقافة” بما هي ايداع وتحقيق للانفتاح ولتلاقح الحضارات والأجناس، استثمار ثقافي لا تخالطه شوائب الأدلجة والتجاذب السياسي والمزايدات على كلّ ما هو إبداع.
“الاستهلاك الثقافي” عوامل خارجية المشجّعة
عدّة مؤسسات علمية حاولت تقديم البرهان بالتقييم الكمي للمنحى الاقتصادي والمالي للاستثمار في الثقافة في مختلف أوجهها من ذلك: الغرفة الإيطالية للتجارة (مونزا إي بريانزا) التابعة لمنطقة لمبارديا، والتي كشفت عام 2012 من خلال دراسة علمية جادة أنجزها خبراء “معهد الإنسات” نظير معهد الإحصاء لينسي” الفرنسي أن رعاية المعالم الأثرية قد تصبح استثمارا مربحا، فـ(برج إيفل) مثلا يساوي ما قيمته 464 مليار يورو وهو ما يعادل 1 على 15 من الدخل القومي لفرنسا، علما بأن هذا التقييم لا يأخذ في الاعتبار القيمة المادية” بل قيمة ما يسمى بـ”علامته التجارية” أو بمعنى آخر “ثقله الاقتصادي”، أي صورته الخارجية وسمعته التي تسمح باستقطاب أعداد السياح، وما يصرفه هؤلاء أثناء زيارتهم من أكل وشرب وزيارات ومواصلات ومشتريات، وأعداد العمال الذي يتم تشغيلهم في البرج ومحيطه مباشرة أو بواسطة شركات خارجية، علاوة على العوامل الإيجابية غير المباشرة التي قد تنتج عن هذه الزيارة، كالإقبال مثلا على تعلم اللغة، أو الشغف بالمأكولات الفرنسية أو حث الأهل والمعارف على زيارة فرنسا وهو ما يسمى في الاقتصاد “العوامل الخارجية الإيجابية” للاستهلاك الثقافي.
دراسة أخرى لوكالة “تيرا” المتخصصة في تطوير المشاريع الثقافية، ضمت 74 مدينة أوروبية، أظهرت أنه إذا كان متوسط ما تصرفه كل مدينة على النشاطات الثقافية يبلغ نسبة 0.7 في المائة من الدخل القومي عن كل ساكن، فإن عائد هذا الاستثمار في النهاية يصل لنسبة 9 في المائة من الدخل القومي عن كل ساكن، لأن المدينة التي تتمتع بانتعاش قطاعها الثقافي تحث سكانها على الاستقرار فيها والأجانب على زيارتها وتشجع على الاستهلاك، وهو مثلا حال مدينة بيلباو الإسبانية التي مرت بركود اقتصادي شديد إلى أن تم افتتاح متحف “كوكينغام بيلباو” الذي ساعد على خلق أكثر من 45 ألف فرصة عمل جديدة في الفترة الممتدة بين 1997 و2007.
لكن الآثار الإيجابية قد تكون “نوعية” أكثر منها “كمية” لا سيما ما يتعلق منها “بالانطباع الجيد” الذي تتركه في الأذهان كل المدن التي تعيش حالة من الانتعاش الثقافي. مدينة ليفربول مثلا استفادت كثيرا – حسب دراسة لوزارة الثقافة البريطانية – من استضافتها فعاليات “ليفربول مدينة الثقافة الأوروبية” عام 2008، حيث شاهد أحداثها نحو 3 ملايين شخص على موقع “يوتيوب”.
وتقول بولين لابورت، الخبيرة في مكتب استشارات “آرت آند فينانس” إنّ: “الأزمان المقبلة ستشهد منافسة شديدة بين المدن الكبيرة لاستقطاب السياح والمستثمرين والأدمغة.. الاقتصاد بالطبع يبقى مهما، لكن الانتعاش الثقافي سيكون الفاصل الذي سيميز بعضها عن البعض الآخر”.
دول الغرب وأمريكا.. تستثمر في قديمها الثقافي مبادرات الدول ذات “التقليد الثقافي” للاستثمار في قطاعها الثقافي تبقى مختلفة تماما عن خطط الدول الناشئة.. فالدول الغربية تملك التراث الثقافي والمعماري والبنى التحتية اللازمة، العواصم الكبيرة كباريس، ولندن، ونيويورك، وواشنطن، وطوكيو احتضنت لوحدها عام 2011 ما يساوي 70 في المائة من العروض الأكثر زيارة في العالم، كما أن معظم المتاحف والغاليريهات الكبيرة توجد بأوروبا وأميركا الشمالية.
وتكتب الباحثة بولين غايا لابورت: “معظم المؤسسات الثقافية لهذه الدول قد شاخت، فمتوسط عمر المتاحف في أوروبا يصل إلى 95 سنة و92 سنة في أميركا.
لهذا، فإن خطة هذه الدول للاستثمار في قطاعها الثقافي مختلفة، وهي غالبا ما تلجأ لترميم مؤسساتها العتيقة، 45 مليون يورو مثلا أنفقتها فرنسا لإعادة ترميم متحف بيكاسو، و165 مليونا لإعادة تحويل مخازن السيارات القديمة لمراكز ثقافية وسياحية جديدة في جزيرة سوغان بضاحية باريس”.
الدول الغربية تلجأ أيضا لتصدير خبرتها في هذا المجال وحتى إعارة تراثها بمقابل، كما فعل متحف اللوفر مقابل مليار يورو وكذلك متحف جوجينهايم وهرميتاج. دراسة عن مركز بومبيدو الذي فتح فرعا جديدا في مدينة ميتز بشمال فرنسا أظهرت أن نشاط التجار وأصحاب المطاعم قد زاد بنحو 40 في المائة بعد افتتاح المركز الثقافي الجديد.
أما بلدان غربية أخرى، فهي توكل مهمة البحث عن الاستثمارات الثقافية لجهات مختصة؛ كندا مثلا ومقاطعتها الفرنكفونية “الكبيك” أوجدت ما يسمى “فون كابتال كولتور كيبيك”، وهو عبارة عن صندوق استثمار رأسماله محدد بمائة مليون 100 دولار، تشارك فيه مؤسسات مختلفة مقابل استعادة أموالها إضافة للأرباح بعد مضي ثماني سنوات. أما منطقة كاتالونا وعاصمتها برشلونة فهي تملك ما يسمى “غيرسك كابيتال فوند فور كولتورال بروجيكت”، وهي هيئة تهتم بدراسة واختيار المشاريع الثقافية الجيدة التي تهم المستثمرين وتضمن لهم عوائد مادية، تماما كما يوجد بألمانيا مركز “أوروبيان سنتر فور كرياتيف إيكينومي” الذي يقوم بالبحث عن ممولين للمشاريع الثقافية الجديدة.
صناعة ثقافيّة في الصّين
في هذا المقام تجدر الإشارة إلى أنّ كثير من المدن الكبيرة التابعة لمجموعة الدول الناشئة عبر العالم وفي مقدّمتها «الصين” تدعم بصفة خاصة صناعاتها الثقافية، حيث كشف وزير ثقافتها “كاي يو” في تصريح خصّ به صحيفة “شاينا ديلي” جاء فيه أن الصناعات الثقافية ستمثل عام 2016 ما يعادل 420 مليار دولار، أي ما يضاهي 5 في المائة من الناتج القومي الخام، في الوقت الذي مثلت فيه عام 2010 نسبة 2 في المائة من الدخل القومي.
وتنفّذ السلطات الحكوميّة في الصين حاليّا ما تسمّيه “مخطط إصلاح الصناعة الثقافية” حيث تم منذ 2011 ولغاية النصف الثاني من سنة 2016 افتتاح نحو 395 متحفا جديدا، مع الإشارة لرغبة الصين الواضحة في جعل مدينة شانغهاي “القبلة الثقافية الجديدة في آسيا”، لذا فهي تحظى بحصة الأسد من المشاريع الثقافية، فإضافة لمعرض شانغهاي الدولي، سيتم افتتاح أكثر من 20 متحفا جديدا وتنظيم أكثر من تظاهرة ثقافية قبل نهاية عام 2016 .
الإمارات: مشاريع ثقافية لها وزنها
الإمارات العربية المتحدة انطلقت هي الأخرى منذ سنوات في عدة مشاريع ثقافية، أهمها مشروع المنطقة الثقافية في جزيرة السعيديات بإمارة أبو ظبي، الذي يضم افتتاح 3 متاحف دولية “جوجينهايم أبو ظبي”، الذي سيكون الأكبر عالميا (51 ألف متر مربع)، و”اللوفر أبو ظبي” (25 آلاف متر مربع)، ومتحف “الشيخ زايد”.. وكلها مشاريع كلفت الإمارة نحو 27 مليار دولار. إضافة لـ”معرض دبي الفني” و”معرض دبي الدولي للأفلام”، وتظاهرات أخرى أصبحت محطات مهمة في عالم الثقافة والفنون. تكتب الباحثة المختصة جوديث هوي بن حمو في صفحات مجلة “ليزيكو” الاقتصادية: “لا شك أن المشاريع الثقافية الضخمة التي تحضر لها الإمارات العربية ستمنحها مكانة خاصة بوصفها وجهة رائدة على المستوى الثقافي والفني إقليميا ودوليا، لكن يجب أن لا يغيب عنا أنها – في الوقت نفسه الذي تمثل فيه استثمارا مضمونا – ستجلب لها عوائد اقتصادية كبيرة ومستثمرين وسياحا، فالهند مثلا التي تقع على بعد ساعتين من دبي ستعرف في الخمس عشرة سنة المقبلة ظهور أكثر من 300 ألف شخص من ذوي الدخل الجيد، هؤلاء بالتأكيد سياح أو مستثمرون محتملون لدبي في المستقبل.
التساؤل المطروح هو هل أنّ مسألة “الاستثمار الثقافي” ستحظى بالأهميّة التي تستوجبها؟؟؟ الإجابة طبعا بيد الشاهد وحكومته؟؟؟