إنتاج السكّر في تونس: البلاد تورّد أكثر من 350 ألف طنّ سنويا، مراهنة حكوميّة على منظومة “اللّفت السّكري”، وبطء في التّنفيذ رغم الحوافز
في موفّى شهر جانفي 2016 صرّح مسؤول حكومي أنّ من برامج الدولة التونسية الأساسيّة ومخطّطاتها المستقبليّة تعزيز منظومة إنتاج السّكر، والعمل على مضاعفتها خلال السنوات القادة بـ 3 مرّات مقارنة بمعدّلات الإنتاج العاديّة، ويأتي هذا التّصريح في وقت تعيش فيه هذه المنظومة “تعثّرا” رغم وفرة الإمكانيّات والموارد البشريّة، الأمر الذي دفع بالدّولة إلى توريد ما يناهز أو يزيد عن 350 ألف طن سنويّا في شكل “سكّر خامّ” يقع تكريره في عدد من الوحدات الصّناعية وذلك بكلفة إجمالية تناهز 400 مليون دينار.
المراهنة على منظومة “اللّفت السّكري”: تحفيز حكومي وتنفيذ بطيء
في منتصف ديسمبر 2015 رجّح مصدر مسؤول أن يتمّ الحسم ففي ملف إنتاج السّكر وذلك خلال مجلس وزاري قال إنّه سينظر بالخصوص في مسألة الاعتماد على مادّة “اللّفت السّكري” كأداة لتحقيق الاكتفاء الذّاتي من هذه المادّة الأساسيّة، حيث يؤكّد الخبراء أنّ إنتاج السّكر باستعمال “اللّفت السكري” في تونس ما زال محتشما وليس في المستوى المطلوب وأنّ حجمه المفترض خلال 2015 يتأرجح بين 10 و 12 ألف طنّ، لكن على خلاف ذلك تذهب فئة من المختصّين إلى التّأكيد أنّه رغم المردوديّة الإنتاجيّة المتواضعة لهذه المنظومة فإنّها حقّقت نقلة وصفوها بـ “النسبيّة” بعد انقطاع دام ما يضاهي 20 عاما حيث لم يتعدّى حجم الإنتاج في السّابق حدود 7 آلاف طن.
ويقتصر هذا النّشاط إلى حدّ الآن على مؤسّسة “جينور” الواقعة في منطقة “بن بشير” من ولاية جندوبة التي لازالت تلاقي صعوبات في توفير احتياجاتها من اللفت السّكري حيث لم يتجاوز حجم عقود الإنتاج التي أبرمتها 1500 هكتار من مجموع 4500 هكتار بالإمكان استغلالها، وكانت المؤسّسة قد أعادت منذ قرابة العامين إنتاج السكر باعتماد “اللفت السكري” بعد انقطاع دام عقدين استبدل خلالها نشاط الإنتاج بتوريد كل حاجيات البلاد في شكل سكر خام أو مكرّر.
وفيما تؤكد معطيات رسمية أن سهول كل من “جندوبة” و”باجة” و”بنزرت” بإمكانها أن توفّر نحو 60 بالمائة من حاجيّات البلاد المقدّرة بـ 350 ألف طنّ سنويا فإنّ عدم التّسريع بوضع خطة عاجلة لاستصلاح شبكات الريّ بالمناطق المذكورة حال، إلى حدّ اليوم، دون عودة قويّة لنشاط زراعة “اللفت السكري” رغم الرّغبة القوية للفلاحين في ممارسة هذا النشاط الذي يتسم بمردودية عالية حيث يستعمل اللفت السكري لإنتاج السكر ومادة الخميرة كما تستعمل فوائض التصنيع كعلف للماشية، وتقول المؤشّرات أنّ مؤسسة “جينور” تمكنت سنة 2014 من تصنيع نحو 10 آلاف طن فيما كانت أعلنت أنّها تتطلع إلى إنتاج ما 12 ألف طن خلال عام 2015 وما يزيد عن ذلك في السنوات اللاّحقة.
ويرجع أهل الاختصاص محدودية الإنتاج باستخدام اللفت السكري إلى جملة من العراقيل في مقدمتها تقادم معدّات الريّ في مساحات شاسعة صالحة لزراعة اللفت السّكري تمتد بالخصوص على ولايات جندوبة وباجة وبنزرت، حيث أكّدت مصادر مطلعة في الغرض أنّ الطّاقة التحويلية المتوفّرة في تونس والموزّعة على عدد من المصانع بإمكانها توفير قرابة 60 بالمائة من احتياجات البلاد من السكر باستخدام اللفت السكري الذي يُستغل أيضا لإنتاج الخميرة والأعلاف الحيوانية.
وللتّذكير فإنّه خلال فترة حكم “الترويكا”، انعقدت جلسة وزاريّة برئاسة الحكومة بتاريخ الإثنين 12 أوت 2012 خصّصت لإعادة تفعيل منظومة إنتاج السكر من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي وذلك بالخصوص عبر تشجيع زراعة “اللفت السكّري” حيث تمّ إقرار التخفيض بنسبة 50 بالمائة من كلفة المياه الحقيقيّة فيما يتعلّق بمنظومة “اللّفت السكري” قصد تحفيز الفلاحين على توخّيها كما تمّ إقرار الشروع في تهيئة ما يعرف بـ “رصيف بنزرت” بهدف مزيد تنظيم عمليّات نقل منتوج السّكر.
“مساهمة الدّولة في كلفة السكر المستخرج من اللّفت السّكري”
أصدرت الحكومة في شهر جوان من السّنة الماضية أمرا (عدد 450 لسنة 2015 مؤرخ في 12 جوان 2015) يتعلق بإحداث “منحة بعنوان مساهمة الدولة في كلفة إنتاج السكر المستخرج من اللفت السكري المنتج محليا وضبط شروط وطرق إسنادها”، ويتضمّن الأمر الحكومي 5 فصول يمكن تلخيص وتوضيح أبرز ما ورد فيها كما يلي:
الفصل الأول ـ يضبط هذا الأمر الحكومي شروط الانتفاع بمساهمة الدولة في كلفة إنتاج السكر المستخرج من اللفت السكري المنتج محليا وطرق إسنادها وذلك بهدف إعادة إحياء منظومة اللفت السكري وتطويرها.
الفصل الثاني ـ تحدث “منحة بعنوان مساهمة الدولة في كلفة إنتاج السكر المستخرج من اللفت السكري المنتج محليا” تدفع لفائدة مصانع تحويل اللفت السكري وذلك عن كل كميات السكر المستخرجة من اللفت السكري في إطار عقود مبرمة بين مصانع التحويل والمنتجين.
ويضبط مقدار المنحة المنصوص عليها بالفقرة الأولى ومدتها بمقرر مشترك من الوزير المكلف بالمالية والوزير المكلف بالصناعة والوزير المكلف بالفلاحة والوزير المكلف بالتجارة باقتراح من اللجنة الفنية المنصوص عليها بالفصل 3 من هذا الأمر، كما تتم مراجعة مقدار هذه المنحة إثر كل موسم تحويل باقتراح من اللجنة الفنية المشار إليها بالفقرة الثانية من هذا الفصل.
الفصل الثالث ـ تحدث بمقتضى قرار من الوزير المكلف بالتجارة وباقتراح من الوزراء المعنيين “لجنة فنية تتولى احتساب قيمة المنحة المحدثة” بالفصل 2 من هذا الأمر الحكومي وذلك بناء على تكاليف مصانع التحويل ومستنداتها الحسابية المقدمة للمصالح المختصة بالوزارة المكلفة بالتجارة.
الفصلان الرابع والخامس ـ يتعين على مصانع تحويل اللفت السكري المنتج محليا والراغبة في الانتفاع بالمنحة المنصوص عليها بالفصل 2 من هذا الأمر الحكومي تقديم مطلب في الغرض إلى المصالح المختصة بالوزارة المكلفة بالتجارة مصحوبا بالفواتير والمستندات المحاسبية وببطاقة فنية تتضمن الكميات المحولة والمردودية الفلاحية والصناعية والكميات المنتجة حيث يتم عرض المطلب على أنظار اللجنة المحدثة بالفصل 3 من هذا الأمر الحكومي لاحتساب قيمة المنحة.
الفصل السادس ـ يأذن الوزير المكلف بالصناعة بصرف مقدار المنحة المحدد طبقا للفصل الثاني من هذا الأمر.
الفصل السابع ـ تحمل مساهمة الدولة في كلفة السّكر المستخرج من اللفت السكري المنتج محليا المحدثة بالفصل الثاني من هذا الأمر الحكومي على كاهل صندوق تنمية القدرة التنافسية في قطاعات الصناعة والخدمات والصناعات التقليدية.
الفصل الثامن ـ تنطبق أحكام هذا الأمر الحكومي ابتداء من موسم 2012 – 2013.
مصنع السّكر بباجة: المردوديّة الإنتاجيّة والأوضاع الشّغليّة والآفاق
أفادت مصادر إعلاميّة وطنيّة وأجنبيّة أنّ تقريرا أنجزه الطّرف النقابي بولاية باجة في ما يخصّ مصنع السكّر التّونسي بالجهة، كشف عن وجود أزمة مالية واقتصادية “تعصف بالشركة التي تقول المؤشرات الإحصائيّة الواردة في التّقرير أنّها تشغّل ما يناهز 600 عامل، حيث قدّرت طاقة إنتاج المصنع بـ 160 ألف طن من السّكر الأبيض سنوياً، تمثل 50 في المائة من الاستهلاك الإجمالي للبلاد في مقابل رصد خسارة مالية سنويّة تجاوزت 10 ملايين دينار وذلك منذ سنة 2009 وحتّى السنوات الأخيرة اضافة إلى 20 مليون دينار من الخسائر المتراكمة.
وكان عشرات من عمّال المصنع نظّموا بتاريخ 6 فيفري 2014 وقفة احتجاجية دخلوا على إثرها في إضراب عن العمل احتجاجا على ما اعتبروه “تعسفا و تضييقا على حقوقهم النقابية”، وقد أفاد بعض العمال، حينها، أنّ “صنفا منهم كانوا قد تمتّعوا بعد الثورة بالتّرسيم غير أنّ أوضاعهم المالية بقيت متدنية لذلك دخلوا في نضالات من أجل تحسين مطالبهم بإشراف اتحاد الشغل” حيث أبرز و بين السيد محمد بن يحي الكاتب العام لاتحاد الشغل بباجة “محمّد بن يحي” أنّ “الاتحاد دخل منذ مدّة في حوار مع الإدارة من أجل تصنيف هؤلاء عمال مصنع السكر بالجهة” لافتا إلى أنّه “بعد مفاوضات بين قيادة “الاتّحاد”، و إدارة المصنع توصّل الطّرفان إلى حلّ يتمثل في إعادة العمّال الذين تمّ إيقافهم عن العمل ومواصلة التفاوض بخصوص مسألة التّصنيف”.
ورغم التّذبذب الحاصل على مستوى الإنتاج والاهتزاز المسجّل في أوضاع العمّال، فإنّ بعض الأطراف في الشركة رأت بأنّ المؤسّسة ستشكل رغم ذلك القاعدة الرّائدة لقطب صناعي تنموي باعتبارها المؤسسة الاولى والأساسية بالجهة حيث كلّفت إدارة الشّركة أحد مكاتب الدراسات المختصة في هذا المجال بالقيام بدراسة استراتيجية تستشرف الحلول للتّقدم بالمؤسّسة عبر الرّفع من امكانياتها الانتاجية والتشغيلية.
وقد أفاد المدير العام لمكتب الدراسات المكلّف بإعداد هذه الدّراسة “توفيق رابح” بأنّ “طاقة انتاج المصنع يمكن أن تتطوّر بالتدريج لتبلغ 350 ألف طنّ بحلول سنة 2016، بما يمكّن من تحقيق الاكتفاء الذّاتي في انتاج مادة السّكر والقطع نهائيا مع توريدها بما يوفّر لخزينة الدولة مبالغ ماليّة هائلة تسمح بدعم وتحسين وسائل الانتاج وتجديد الآليات وتوفير المادة الخام بأقل التكاليف بالنظر إلى أن تكلفة إنشاء مصنع لإنتاج السّكر تبلغ أكثر من 150 مليارا من المليمات”.
كما أكد مدير مكتب الدراسات المذكور “امكانية إنشاء وحدات صناعية مساندة لها صلة بالنشاط الاساسي عبر بعث مصنع للأكياس البلاستيكية التي تستخدم في تعبئة وتعليب السكر والسميد والعلف التي تعتبر من المنتوجات الاساسية في الجهة والمناطق المجاورة لها” لافتا إلى أن “الوحدات الصناعية الجـديدة من ستمكن من تشغيل 100 الى 150 عاملا واطارا في حال انطلاق عملها”، وتجدر الاشارة الى أن هذه الدراسة شجعت عديد المستثمرين الأجانب من العارفين بالقطاع وأصحاب الخبرة في الميدان على القدوم الى تونس وإعرابهم عن النية في الاستثمار في مصنع السكر.
مسألة “خوصصة” مصنع باجة
عرفت “الشّركة التونسية للسّكر” التي تمّ تأسيسها في 29 جويلية 1960، وتهتمّ أساسا بتكرير مادّة السّكر من خلال مصنع السّكر بولاية “باجة”، تراجعا كبيرا خلال العشرية الأخيرة بلغ أقصاه منذ سنة 2005 نظرا للتّأثر البالغ بارتفاع سعر مادة السكر في السوق العالمية خاصة أن مصنع الشركة يصنع ويكرر مادة قصب السكر المستوردة اضافة الى تكبيل أسعار البيع في السّوق الوطنيّة، وقد خلّفت هذه الوضعيّة اللّجوء نحو عرض الشّركة للخوصصة في نهاية سنة 2009.
وقد نقلت وسائل إعلاميّة سعوديّة، وتحديدا جريدة “الحياة” بتاريخ 19 جانفي 2010 نقلا عن مصادر رسميّة تونسيّة قولها إنّ : “الحكومة قرّرت تخصيص الشّركة التّونسية للسّكر بعدما درست في المرحلة الأولى فرضية زيادة رأس مالها الذي قدّرت قيمته وقتها بنحو 3.4 ملايين دولار، لكن الحكومة خيّرت إقرار تخصيص الشركة وإدراجها ضمن (8) مؤسسات عموميّة أخرى معروضة للتّخصيص في تلك السنة” حيث أشارت المصادر ذاتها إلى أنّ “68 في المائة فقط من رأس مال الشركة سيباع للمعنيين من الخواصّ”.
شراكة تونسيّة ليبيّة وغياب للمعطيات الرسميّة الواضحة
أخبار كثيرة مدعمة بمؤشرات إحصائيّة تواترت طيلة عام 2015 في وسائل الإعلام التّونسيّة تفيد بشروع شركة سكر تونس المنتصبة في فضاء الأنشطة الاقتصادية الحرة ببنزرت في الانتاج وقيامها خلال النصف الثاني من شهر ديسمبر الماضي بتصدير أول شحناتها في اتجاه ليبيا عبر معبر رأس جدير من خلال عدد من الشّاحنات، وينتظر أن يتواصل تصدير السكر خلال سنة 2016 في اتجاه ليبيا وأسواق أفريقية عديدة خلال العام الجديد ومنها الجزائر والتشاد والنيجر.
وذكرت وسائل الإعلام المشار إليها المسؤولين من التّونسيين واللّيبيين عن “شركة سكر تونس” أنّ مستوى الإنتاج السنوي للشركة في حدود 600 ألف طن من السكر الأبيض من الدرجة الاولى في مختلف الأكياس والأحجام، وأنّ السوق التونسية ستستقطب نحو 200 ألف طن، أي حوالي ثلث الانتاج وأكثر من نصف الاستهلاك الوطني المقدر بـ 350 و360 ألف طن، في حين سيتم تصدير البقية في اتجاه ليبيا التي تستهلك 260 ألف طن في السنة.
وقد أعلن مسؤولو الشركة التونسية الليبية التي يبلغ رأسمالها 320 مليون دينار، أن عدد مواطن الشغل التي تم احداثها تهمّ مهندسين وإطارات وفنيين وعمال وسائقي شاحنات وعربات بلغت 550، وأنّ الشركة ستعتمد ستعتمد لاحقا في تصدير منتوجها من السكر من المصنع في اتجاه ليبيا عبر السكة الحديدية الى “غنوش” بقابس للتقليل من الازدحام على الطريق السيارة وفي مداخل بنزرت، على أن يتم النّقل من جهة “غنّوش” الى ليبيا، في حين سيكون التصدير لبقية البلدان عبر الميناء التجاري ببنزرت.
ويتساءل كثير من التّونسيين كيف لملف حسّاس كملفّ “إنتاج السكّر” ما زالت الضبابيّة تكتنفه إلى اليوم، وتحول دون فتحه وتسليط الضوء عليه وإنارة الرأي العامّ بشأنه، خاصّة بالنّظر إلى أهميّة هذا المنتوج الأساسي كمادة استهلاكيّة حيويّة ويوميّة لا غنى عنها في حياة جميع التّونسيين، سواء تعلّق الأمر بالاستهلاك الأسري أو الغذائي التّجاري أو حتّى في الاستعمالات الدوائيّة والكيميائيّة أو ما شابها، تساؤلات تبقى مطروحة، وتظلّ معلّقة إلى حين توفّر الإجابات الضّافية من المصادر الرسميّة المختصّة.