في رحاب مكّة
انطلق “الباص” من محطّة “البطحاء” بالرّياض بعد أن شحن الشيخ المغربي “الحاج علي” حقائب المعتمرين في الصندوق الأسفل للحافلة المكيّفة قبل أن يطلّ برقبته النحيفة البيضاء الطويلة، ويميل الرأس جائلا بعينيه الخضراوتين الصغيرتين يمنة ويسرة حتّى إذا وجد كلّ المقاعد ملأت بما قدّر اللّه من خلقه، وشوش إلى السّائق السمين ذي السحنة الآسيوية بشارب أسود طويل ولحية كثّة مهملة التّرتيب، استدار بدوره إلى الركّاب وسرعان ما أومأ برأسه للشيخ علي كأنّه يوافقه على اكتمال النّصاب ..تخاطب الاثنان بعربيّة ركيكة مخلوطة بلهجة خليجيّة لم تكن مفهومة بالنسبة لي ورفيقي اللّبناني ” عثمان”..
أخذ “الحاج علي ” مصدحا موصولا بكابل في إحدى الوصلات الكهربائيّة للحافلة ثمّ بدأ بالبسملة والحمد والصّلاة على النبي (ص) ثمّ دعاء السفر، لا أذكر منه غير “سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون” ثم أدعية وأذكار قبل أن يغرق الجمع بين نائم وقارئ وذاكر، لم يشذّ عن الرّفاق سوى شابّ قيل لنا فيما بعد أنّه “بنغالي” (من بنغلاديش) كسّر لنا رؤوسنا طيلة الرحلة بالثرثرة، كلام لم نفهم له شكلا ولا مغزى قيل لنا أيضا إنّه يتكلّم “الآرديّة.
بعد عشر ساعات ويزيد قليلا، بلغنا أقرب “ميقات”، نزلت و”عثمان” متعجّلين للإحرام ولم نعمّر طويلا حتّى خرجنا كلّ بأزراره والأدباش الصغيرة والكبيرة في حقيبة السفر، صعدنا الحافلة مجدّدا وبدأت جبال مكّة الصّخريّة بنيّة اللّون المائلة إلى السّواد تطالعنا مرّة يمينا وأخرى شمالا، انطلق صوت “الحاج علي” ملعلعا لكن هذه المرّة بلا مصدح وكان يهتف مع جملة الهاتفين “لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك” كان ذلك دأبنا طيلة ما تبقّى من الطّريق.
اشرأبّت عنقي مع بقيّة عباد الله إلى ساعة مكّة العظيمة وهي تبدو في بهاء وعظمة وخيلاء، تسارعت دقّات قلبي واضطربت واعتراني فرح عارم لا قبل لي به واحسست عرقا باردا يجتاحني، كلّ ذرّة في كياني اهتزّت، دارت بخلدي كلّ أسئلة العالم عمّا أصابني، لم أكن أدري هل هو صنيع الإنس أم الجنّ أم أنّ مكّة هكذا تفعل بزائريها، لم أعرف أبدا أنّ الدّمع والفرح والحياة والحبّ والشوق والصّدق وكلّ صفاء ونقاء يختلج في دخيلتك يا إنسان يحدث لك وأنت في حضرة مكّة.
وصل “الباص” إلى حيث سلسلة الإقامات المتاخمة للحرم المكّي فنزل الرّاكبون كلّ إلى إقامته، جمعت ورفيقي “عثمان” أغراضنا وحفظناها في الشقّة التي حجزت لنا، ثمّ نزلنا إلى حيث كان “باص” صغير الحجم في انتظارنا ليقللنا إلى “الكعبة المشرفة”، قال لنا السّائق السّوداني أنّها تبعد زهاء كيلومترين عن موقفنا، كنت ورفيقي اللبناني نتأمّل كلّ صغيرة وكبيرة لكن أحدنا لم ينبس بكلمة، حضرت الجموع وانطلقنا قاصدين “البيت”.
عندما وصلنا كانت مكّة وحاضرتها تعجّ بالغادين والرّائحين، انطلق لساني ذاكرا “سبحان الله” “لبيك اللهم لبيك…” وهكذا رفيقي لم نتحدّث حتّى النظرات لبعضنا البعض كنّا نسترقها ولا ندري لماذا لم نتبادل عبارة واحدة منذ اقتربنا من “البيت”، ردّدت في نفسي “كلّ هذا الخلق لا حول ولا قوّة إلاّ بالله”، كان الوقت الذي وصلنا فيه يسبق قيام صلاة الصّبح بما يزيد قليلا عن ربع ساعة..
ولمّا ظهرت مكّة وجمت وهاجت وماجت نفسي لكن سرعان ما سرت في نفسي سكينة وطمأنينة لم أعهدها منذ جئت الأرض ومنذ قيل “هذا فلان بن فلان”، أذكى عقلي سير الأنبياء والصالحين كأنّي اشتمّ ريحهم بل كأنّي استنشق عطر سيرهم رأيت في ما رأيت الراحلة والبعير والصحراء وخيام العرب “العاربة” و”المستعربة” كنت أرى الرسول (ص) وهو يسرع إلى “خديجة بنت خويلد” مرتعدا من أثر أوّل “وحي” قائلا “دثّريني دثّريني” كنت ألمحه (ص) يفاوض قريشا وهو يسري مهاجرا ليلا وعليّ ينام في فراشه وهو يواسي وهو يداوي وهو يدعو إلى الفلاح والصّلاح وهو يؤمّ النّاس في حجّة الوداع.
أكملت ورفيقي “عثمان” مناسكنا داعين اللّه أن يتقبّل منّا، غادرت مكّة وفي القلب شوق وتوق ودعوة صادقة لكلّ الأحباب والأصحاب لزيارة مكّة.