متفرقات
بلادي وإن جارت عليّ…
تطالعنا بين الفينة والأخرى أنباء عن غرق زوارق في عرض البحر على متنها عشرات بل مئات المهاجرين من أبنائنا، ترصد أعيننا الصّور المؤلمة للضحايا الغرقى وما تبقّى من جثثهم التي قضمتها الحيتان وفتّتها ثديّات البحر، يؤلمنا بكاء الأمهات والزوجات المكلومات حزنا على أعزّاء فقدوا في ريعان العمر.
أكل البحر ما أكل من أبنائنا وما زال فاتحا فاه “هل من مزيد؟؟”،وشبابنا في غفلة من الإدراك وغياب الوعي بالمخاطر وسوء تقدير الأمور وفي غمرة الحلم بالإنتقال للعيش في جنّة تجري من تحتها الأنهار لا نصب ولا وصب فيها، يتهيّأ لهم أنّ أوروبّا جنان قطوفها دانية وأنّها بلاد الثراء في لحظات، و”تمنّى على الله فقط” يحصل المراد و”شبّيك لبّيك المستحيل بين يديك“.
قوارب الموت تحمل شبابنا كأنّهم “قطعان أغنام”، تحملهم على حين غرّة وتأخذهم دون استئذان من أهاليهم وأحبابهم وأصحابهم بعد أن يغويهم سماسرة البشر من باعة الضمير فيدفعون مدخراتهم وأموال ذويهم ثمّ يقامرون بحياتهم ويرتمون في حضن المجهول لا يمنعهم عن مقصدهم مانع.
يتستّر سماسرة “الحرقة” بالظلام ويتحركون متوارين كالخفافيش بعدها يحشرون أبناءنا ممن قذفوا أنفسهم بأنفسهم إليهم في زوايا وأمكنة ومغارات مخفيّة عن الأنظار ثمّ يتحيّنون فرصة الغفلة حتّى لا يكون أحد شهيدا على جريمتهم النكراء وهم يرسلون أولادنا وبناتنا وحتّى أطفالنا في قوارب الفجيعة ومراكب الذاهبين بلا رجعة أو البالغين أرضا ليست أرضهم ووطنا ليس وطنهم حيث ينتظرهم القبوع خلف أسوار الملاجئ أو بين أقبية مراكز الإيقاف أو الرمي في زنزانات السجون إلى وقت غير معلوم.
اليوم عشرات الآلاف من التونسيين والمغاربة والجزائريين ومن جنسيّات عربيّة وافريقيّة يعيشون عيشة الذل والقهر والضّيم داخل ملاجئ ومراكز بـ”لامبيدوزا” وعدد من الجزر الإيطاليّة الصغيرة، الحارقون الهاربون من جحيم أوضاعهم المزرية وبطالتهم وعطالتهم في أوطانهم كمن “هرب من القطرة فجاء تحت الميزاب” فهم تائهون ضائعون وجدوا السراب الذي يحسبه الضمآن ماء ،وجدوا أنّ أوروبّا التي باعوا الغالي والنفيس من أجل بلوغها هي ككلّ الأوطان أرض بشريّة أديمها من تراب لا زمرّد ولا ياقوت.
إيطاليا أو غيرها من أقطار “أوروبّا العجوز” أو “أوروبّا الشابّة” ضائقة ذرعا بأبنائها وشبابها يشكو البطالة مثل شبابنا وينتظر مورد الرزق وموطن الشغل في ضوء موجة الأزمات الإقتصاديّة التي ما انفكّت تحمل معها الأخضر واليابس فلم تفلت قطرا من أقطار الإتحاد الأوروبّي كأنّه “تسونامي“.
اليوم أوروبّا ترزح نحو إشكاليّات بل معضلات خاصّة في التضخّم المالي وانهيار المعاملات الماليّة وتدنّي سعر صرف اليورو أمام الدولار إلى جانب الإهتزازات الكبرى في صناديق الضمان الإجتماعي والتقاعد والتأمين على المرض ممّا حدا ببعض الدول على غرار اليونان والبرتغال واسبانيا إلى توخّي سياسة التقشّف في نفقاتها وترشيد موازناتها الماليّة، هذه الإجراءات التي لم تشفع لبعض مؤسّسات المال والإقتصاد من إعلان إفلاسها بعد انهيارها فضلا عن تسريح آلاف العمّال في بعض الشركات الكبرى ذات التأثير الدّاخلي وذات الصّيت العالمي.
حاليّا تتناهى إلى أسماعنا ونتفرّج ونقرأ أخبارا عن مآس تحدث بشكل شبه يوميّ ضحاياها بالعشرات والمئات يلقون حتفهم وآخرون يصلون الضفّة الأخرى فتستضيفهم خفر السواحل والبرد والجوع والتعب ثمّ التّرحيل المذلّ أو الإبقاء الأذلّ، فأوروبّا مستنفرة ضدّ كلّ ماهو عربيّ مسلم تحسب العرب والمسلمين قنابل موقوتة لا سيما بعد الحوادث الإرهابيّة الأخيرة على أراضيها.
إنّ الحالمين بالثراء والسيارات الفارهة والمرأة الأوروبيّة الشقراء الجميلة عبر “الحرقان” هم كمثل “الطامعين في العسل من اليعسوب”، فالحرقان هو بيع للأحلام في سوق الأوهام، ولا يسعنا إلاّ أن نردّد بقلب سليم ذاك البيت الشعري القائل:” بلادي وإن جارت علي عزيزة وأهلي وإن ضنوا علي كرام“.