متفرقات
( قـــيس الــعرقوبي ): كاد المعلّم أن يكون “رسولا” وليس “تاجرا”؟ !
نصبح كلّ يوم، ويصبح الملك لله، على بشائر الوجوه الصغيرة المشرقة في الثنايا والمسالك والطرقات، محافظ صغيرة وكبيرة وقامات ضئيلة متكدّسة، بحملها، هنا وهناك أمام أبواب المدارس العموميّة والخاصّة، وفي الأثناء تتراصّ محطّات النقل بشباب المدارس الإعداديّة والمعاهد الثانويّة، ناهيك عمن رافقه والداه أو أحد أوليائه إلى مدرسته، الجميع، رجلان وركبان، يحثّون الخطى ناحية بيوت التربية والتعليم، إلى حيث المربّي، معلّم كان أم أستاذ، ونعني الجنسين.
يرجعني المشهد إلى سنين خلت، كم هو رائع ورائق أن تستفيق بكرة لتلتقي بأقرانك وتعيش يوما معهم يوما كاملا أو شطره، وأنت ترهف السّمع إلى معلمك أو معلمتك، وأنت منتبه لمعلومات تنساب كشراب مذاقه بلسم الحياة يغدق بها أستاذك أو أستاذتك، أعادني المنظر إلى حيث ذاك الحرص المستطير أن قبل علمونا الحروف الفقرات والنصوص، حرصهم على أن نفهم الدرس المعروض وأن نستوعب المعلومات المقدّمة.
يحضرني كثير من المعلمين والأساتذة في اختصاصات عديدة كان لا يهدأ لهم بال طيلة أيّام وأشهر السنة حتّى يكون تلاميذ الفصل، وأوّلهم “المهلهل” و”البليد” و”الكسول” من النّاجحين، معاملة خاصّة يفردونها لمن ثقل فكره وتثاقل فهمه، كان معلّمونا وأساتذتنا الأجلاّء لا يؤمنون بالمستحيل، ولا وجود عندهم لإستمرار حالة “التصطيكة البقري” عند أيّ تلميذ، وإن استحال تحريك ذهنه فإنّهم لا يعجزون عن دفع هذا التلميذ أو التلميذة من جماعة “مسقط إسقاطا على العقل”، دفعهم إلى النجاح والفلاح وإن اقتضت الأمور فرض عقوبة “تكرار نسخ الدروس والمعلومات”، العقوبة المعروفة بالخطيّة أو جاوزها إلى اعتماد مبدأ “الربطيّة”، أي حبس التلميذ موضع الإشكال العويص 2 إلى 4 إلى 8 ساعات يتمّ توزيعها آخر الأسبوع ( الجمعة والسّبت)، بغاية المراجعة، وإعداد الواجبات المحفّزة على تحسين المؤهلات.
المعلّمون والأساتذة كانوا أكثر جلدا من جمال ونياق الصحراء الواسعة، لا يخفت صبرهم على تحمّل عناء الدروس الطويلة، ولا تخبو مصابرتهم عن شطحات الأطفال ولا عن مراهقة الشباب الصّغير، كانوا يعلمون كيف يروّض من سوّلت له نفسه الشرود، وكانوا يقدّمون دروسا إضافيّة علنيّة في المدارس
والمعاهد، خارج أوقات الدروس، دروس يدعى إليها وجوبا وليس اختيارا كلّ من تبلّد ذهنه وضحلت نتائجه، كانوا يكرّرون تلك الدروس كلّ ما دعت الحاجة إليها، ولم يحصل وأن علمنا أنّهم كانوا يتقاضون عن تلك التضحيات الكبيرة ملّيما واحدا، “لا فرنك ولا خرّوب”، وقتها المعلّم والأستاذ كان لا يفرقه فارق عن “الرّسول”، وكان يوافق ما قيل فيه “كاد المعلّم أن يكون رسولا“.
والمعاهد، خارج أوقات الدروس، دروس يدعى إليها وجوبا وليس اختيارا كلّ من تبلّد ذهنه وضحلت نتائجه، كانوا يكرّرون تلك الدروس كلّ ما دعت الحاجة إليها، ولم يحصل وأن علمنا أنّهم كانوا يتقاضون عن تلك التضحيات الكبيرة ملّيما واحدا، “لا فرنك ولا خرّوب”، وقتها المعلّم والأستاذ كان لا يفرقه فارق عن “الرّسول”، وكان يوافق ما قيل فيه “كاد المعلّم أن يكون رسولا“.
اليوم للأسف لم تعد تلك الصّورة ولم يبق منها إلاّ كما بقي من جمر الحطب بعد فنائه، وأمسى أن تجد مثالا واحدا أو اثنين من معلّمي وأساتذة زمان في مؤسسة تربوية، كأنّك عثرت على ابرة في كومة من القشّ، ويكفي أن تلج مكتبة أو محلاّ أو متجرا أو حتّى “حمّاصا” ثمّ تدقّق النظر جيّدا فلا محالة ستجد في هذا الرّكن أو ذاك “يافطة كرتونية” بهذا الحجم أو اللون أو ذاك، دوّن عليها “دروس خصوصيّة” مشفوعة برقم الهاتف الجوّال.
هذا ما ظهر، دون خجل أو وجل، رغم الجدل المتواصل والمثار حول “الدروس الخصوصيّة” كونها تخضع للمنفعيّة الخالصة لفائدة المعلّمين والأساتذة على حساب الأولياء الذين يجبرون في العموم على أن يكون ابنهم أو ابنتهم من بين كوكبة المستفيدين من هذه الدروس حتّى ولو كانت تكلفتها في كثير من الأحيان عشرات أضعاف قيمتها، ولكن “دروس الخوف” أو “دروس الإستغلال” كما تصفها فئة واسعة من الأولياء صارت “شرّ لا بدّ منه”، فإمّا التسجيل فيها والرضاء بأسعارها، وإمّا الويل والثبور لهذا التلميذ أو تلك التلميذة، فمن يخرج عن السّرب ينتظره طوفان عشّاق تقديم هذه النوعيّة من الدّروس، التي أصبحت جواز السفر إلى النجاح والمعدلات المتميّزة، ومن خالف وعزف فالفشل والخسران المبين.
أحد الأولياء قدّر وتقاسمنا المكان لإحتساء قهوة صباحيّة في إحدى الفضاءات قال، متهكّما، “جماعة الإيتود ولاّو يخوّفوا أكثر من جماعة الإٍرهاب.. أحنا في بالنا الدولة منعت عليهم هالصنعة.. ياخي زادوا فيه.. ياخي يراقبوا فيهم، وإلاّ كلام وبرّه.. وحزّة باجيّة”، أجبته مبتسما: ” صديقي إلّي فيه نبّة ما تتخبّى.. يا حسرة قبل كان المعلّم في مقام الرسول بالحقّ، نبل وإنسانيّة وأخلاق، اليوم الجموع خلعت لبسة الأنبياء ولبسة بلوزة التجّار.. بالطبيعة موش الكلّ آما برشة هكّة.. للأسف“.
بالمحصلة، تمنياتنا لأبنائنا التلاميذ وبناتنا التلميذات بالتوفيق والنّجاح والتميّز.