“الدنيا حكايات” شرّ الحــاسدين
شعر بانقباض شديد في صدره، وهو يسلك الطريق إلى دار أبويه، استبدّ به ضيق غريب كان يطبق على أنفاسه كلّ ما تقدّم شبرا في أرض حومته التي ولد وترعرع وبلغ عتبة الشّباب، لكنّه لم يشعر يوميّا أنّه مرتاح فيها، لم يكن يعلم ما يحمله على التفكير بتلك الطّريقة، كان يتحاشى كلّ موقف أو مناسبة تجمعه بأصحاب النظرات الحاسدة، أو هكذا يحسب أصحابها، والنّفوس المكلومة، والصّدور المسعورة، يلمح بغضهم وحقدهم يكاد ينطلق كالسهام القاتلة من عيونهم المتربّصة بحركاته المترصدة لسكناتهم، الأمر يبدو للعيان كلّ ما وقعت أبصارهم عليه مارّا، قاعدا أم قائما في هذا المكان أو ذاك من محيط الحيّ، ولم يكن يعلم من داع لهذا الشرّ المستطير الظاهر على سحناتهم التي تتلوّن بحضوره.
قطع شوطا كبيرا من السبيل الطويلة، أحالتها السيارات والشّاحنات، المتواترة بين الفينة والأخرى، دون توقّف، إلى جحيم من الغبار المتطاير، تلفّت يمن ويسرة وهو يتأهّب إلى دخول الزقاق الموصل إلى دارهم، صادفت نظراته “حلاّق الحومة”، قريبه، وهو منهمك في العمل، أومأ للحلاّق بيده فبادله الأخير التحيّة برفع اليد التي تحمل المقصّ، ثمّ أشاح ببصره عن محلّ الحلاّق، وأكمل السبيل لكنّ قريبه الحلاّق عاجله بالسؤال:
– الله مستعان “سي فريد” يظهر أنّك مجهد نوعا ما، ملامحك توحي بذلك؟
– بارك الله فيك على الاهتمام “سي مراد”، الحمد لله الصّحة لا باس.
تعوّد على هذه الفصيلة من المعاملات ظاهرها مجاملات وباطنها، يوحي ظاهرها بالودّ والمحبّة، ووحده الله من يعلم زيف باطنها، فهو يعلم، علم اليقين، أنّه إذا نقص ملّيم من ثمن الحلاقة فإنّ قريبه الحلاّق الذي كان منذ قليل يتودّد إليه ويسأل عن حاله وأحواله، سيشهّر به، ويشبعه غيبة وذمّا، وإن لزم الأمر سيهتك عرضه في حضرة من يعلم أنّهم يكنّون له ما يكنّه له قريبه.
لم يعد يفصله عن الدّار غير بضع أمتار، ترصده أعين النّسوة المنتشرات، حلقات وفرادى، كأنهنّ ذباب الحلوى، بل كأنهنّ، عساكر حرب، تتأهّبن للانقضاض الشرس على عدوّ أوغرت صدورهنّ عداوته، تتحرّك ألسنتهنّ رافعة أطنانا من النميمة ويتفاقم الهمز واللّمز، ويستعر لهيب الغمزات حتّى تكاد العيون تطير من محاجرها.
لا تختلف أفعال نسوة حومته على أعمال رجالها، شيب وشباب وكهول، لا يدري ما يحملهم على الاهتمام به بتلك الدّرجة، يحدّق لبرهة في بعض الأعين، فيلمح شرّا مستطيرا يتطاير، يكشف غلاّ وحنقا، يعلم الرقيب العليم ما تخفيه الصّدور.
يردّد في سرّه، وقد أخذ منه التوجّس والتوتّر مأخذهما: اللهم اصرف عنّا شرّ الحاسدين، وابعد عنّا كيد الكائدين”، يقترب من الباب حتّى يكاد يلامس طبقته الحديديّة، يضع المفتاح في موضعه، يديره يمنة فينفتح الباب يدفعه ثمّ يدخل سريعا، يبسمل ويسلّم على أهل الدّار ثمّ يكرّر التعوّذ من “شرّ حاسد إذا حسد”.