المجموعة “الدنيا حكايات” “حكـم ربّـي”
لم تنل يداه ملّيما واحدا، كما تعوّد، من يدي والدته العجوز المريضة، استشاط غضبا في نفسه دون أن يظهر شيئا من أحاسيسه، لعن في سرّه الزمن، وشتم الظروف، صفق الباب الحديدي المزركش بدوائر الصدأ المنتشرة عرضا وطولا، خرج دون أن يحدّد لوجهته مقصدا.
كم من المطالب والوثائق قدّمها من أجل العمل وسلّمها لإدارات ووزارات ومؤسسات، لكن لا حياة لمن تنادى، لم تشفع له دراسته ولم يذد عنه تفوقه ونبوغه شبح الفقر والبطالة الذي أبى إلاّ أن ينغّص عليه لياليه قبل أيّامه.
أمسى مترقّبا بصيصا من نور خافت يضيء عتمة ألقت بظلالها على كلّ تفاصيل حياته، بات يترقّب فرجا ينزل مخصوصا من السّماء يردّ كيد الأعداء ويمحق شماتة الشّامتين.
كلّ ليلة يحلم بتبدّل الحال، فيرقد لا تفارقه آماله ويستفيق على الوجع والعوز، واقع كلّه أوزار ومتاعب أبى أن يبرحه ويفارقه، الألم بألوانه عايشه، وتحسّر على ما ضاع وما فات من سنوات قضّاها بين المدرسة والمعاهد والجامعات، أخذته حسرته وغيظه وقسوة علّته على التفكير في حرق شهائده التعليميّة والعلميّة، رغب في وقت ما أن ينسف كلّ ماضيه،
تارة اجتاحته فكرة الهجرة السريّة إلى إيطاليا وطورا سحبته أفكاره إلى ليبيا، كان همّه أن يأكل الخبز مع من قدّر له أن يأكله ويأكل إدامه ويتنعم بغير الخبز والإدام من الأنعام والحرث والنّسل، شعر بالجدب والشحّ وقتر الرّزق.
وقعت في مخيلته صور ومشاهد وأقدار عديدة لأقارب وأباعد لانت معهم الدنيا وطاوعتهم الظروف وحنيت عليهم وأغدقت عليهم من أفضال المال والبنين، تمنّى لو أعيد رسم خطّ حياته ليعود إلى بدايته فيختار لنفسه دورا بسيطا وعملا متواضعا كأيّام عيشه، وضيعا كحظّه أو هكذا كان يحسبه، تمنّى لو يسّر له أن يبدأ صبيّا في ورشة نجارة أو ميكانيك أو صانع في مخبزة أو عامل في مزرعة، ترائ له أنّها صنائع أقرب إلى محيطه الشعبي الفقير بل أقرب ما يكون إلى شجرته الأسريّة البسيطة، فلا والده وزير ولا عمّه مدير ولا شقيقه غفير، لا شيء غير ذاك الأفق الذي اعتاد النظر إليه فلم يعثر على بصيص من نور الطّريق، كأنّه ينظر إلى دخول الجمل من سمّ الخياط أيسر من حلول الفرج عنده وأهله.
تأخذه قدماه المتعبتان كلّ عشيّ إلى مقهى “رابح بلخير”، تاجر الحيّ المعروف بنفوذه وقباحة لسانه وزيغه وولعه بالنّساء في السرّ والعلن، يذهب مكرها لاحتساء قهوة تضيع وقته الضائع وينتحي جانبا في ركن يتعمّد أن يكون بعيدا عن فوضى وضوضاء عشّاق ألعاب الورق، يجلس في مقهى والد صديقه وزميل دراسته ” علي بلخير”.
حزّ في نفسه، أو هكذا شعر في بعض الأوقات، أن يتنعّم صديقه الشّاب المعروف بتهوّره وصعلكته بالثّروة والزوجة والأبناء رغم تعثّره الدراسي ورسوبه المتكرّر، يتذكّر كيف كان محلّ سخرية وتندّر أترابه سنوات المدرسة وبضع أشهر قضاها بالمعهد قبل أن يطرد بعد أن قذف رأس أستاذ الفصل ببيضة دجاج طازجة، عندما كان مستديرا إلى السبّورة وإصبعه منهمكة في خطّ مسائل من الدرس بالطباشير.
لم يكن صديقه “علي بلخير” يفقه من الأمور غير خفّة الحركة والشقلبة كبهلوانات السّرك، وكثيرا ما لعب دور القرد قافزا وماشيا وجالسا القرفصاء، كان يعشق الضّحك والنكات واللّهو مع أصحاب السّوء ومرافقة البنات ومقاسمتهنّ الهيام والدلع وراء الأسواء الخلفيّة للمعهد، ولا تلمح السجائر مفارقة أصابعه أو شفاهه إلاّ نادرا، يذكر أنّه كان يغافل بعض تلاميذ الفصل من البنات أو الأولاد لينفخ، على حين غرّة، دخان سيجارته بعد أن يحتفظ بها داخل فيه لتعلو أنفاس الدّخان وهو تصعّد إلى أعلى مارقة من شعر هذا أو مرتفعة من شعر تلك.
هو بعد كلّ ذلك موظّف في موقع وله مرتبته، وأمسى له قدره واعتباره، وهو صاحب “أفاريات” أغدق أموال حياتها ونشاطها أبوه “رابح بلخير”، استعمرت تساؤلات جيّاشة عقله، تساءل عن مغزى ما يحدث ممّا أحسّ في وقت ما أنّه غير طبيعي وليس من المنطق في شيء، برّر لنفسه ما ذهب إليه عقله من تفكير وعاد إلى حالته فرأى أنّه و”ولد بلخير” مثالان لواقع كان الأجدى أن تكون ثماره لمن تعب واجتهد والجزاء لمن عانى الأمريّن في حين أنّ الثمار أخذت طريقها إلى من لم يرفع يداه إلى رأسه يفرك فروته، أو هكذا دفعته للتفكير بطالته وإفلاسه وإحساسه بالذلّ والهوان.
اقترب من مدخل المقهى بعموديه الرخامين المزركشين من الوسط إلى أعلى السقف بفسيفساء تنوعت ألوانها وبرسوم اختلفت أحجامها، نقوش وصور قدّت بتناسق وانسجام، وانتصبت، غير بعيد، طاولات دائريّة بكراسيها البلاستيكيّة ذات اللّون الأرجواني، فجأة تراجع إلى الوراء ولم يكمل الدرجة الأخيرة من السلّم الأرضي للمقهى ذي الخمس درجات، السلّم الرخامي العريض المقام في بوابة المدخل.
خاطر ما جعله يعدل عن ولوج المقهى ويغيّر بوصلة السيّر مستديرا إلى حيث جامع الحومة الماثل قبالة المقهى، أدرك أنّ صلاة العصر قارب آذانها على الصّدوح من المئذنة العالية، دنا من باب الجامع حتّى بات قاب قوسين أو أدنى من أن يلج صحنه قرعت أذناه ضحكة ساخرة لعلعت في الفضاء السّاكن، هو ولا شكّ صوت صديقه “علي بلخير”، هي ضحكته والأسلوب أسلوبه لم يعرف أنّه غيّره رغم تقدّم العمر ومجيء الصّغار.
استدار ليجد “ولد بلخير” وقد عاجله بوكزة على كتفه ثمّ يردف قائلا:
– “أينك يا صديقي العزيز.. أيّة رياح حملتك عنّا.. هل هاجرت مالحومة..”؟؟؟
– “الحمد لله أخي علي.. كلّ ساعة وعلمها.. أنت لا بأس والصّغار لا باس”.
– “الأمور لا بأس في نعمة صديقي.. أنت من يراك يقول أنّك عجوز لم يعد جلدك صالحا لا لصنع جراب ولا قربة لكن يمكن أن يصنع طبلة…هههههه”.
– “الحياة تعمل ما تعمل يا صديقي علي.. ربي يفضلك.. المعذرة قريب العصر.. لست على وضوء.. بلغّ تحياتي للعائلة والوالد عمّ رابح وأنقل عنّي قبلاتي للصّغار”.
أومأ “علي بلخير” برأسه إيجابا ودعا له بتقبّل الله لصلاته، واتجه نحو سيّارته الضخمة الرّابضة في مكان قريب ليندفع وراء مقودها، ثمّ انطلق بها وموسيقى صاخبة تنبعث من النوافذ شبه المفتوحة على جانبي العربة الكبيرة.
واصل مقصده متجها نحو أركان الجامع، متمتما “حكم ربّي”.