” أمانة الحب”: أمير عاشق وفتاة من الشّعب
استوحت الكاتبة والأميرة لبنانية الأصل إسكندرة قسطنطين الخوري (1872-1927) نص مسرحيتها “أمانة الحب” من أجواء قصور الملوك والأمراء، رسمت قصة عشق بين أمير وفتاة جميلة من عامة الشعب، تشير من خلالها إلى قوة الحب في مواجهة الطبقية والقيود الاجتماعية الموضوعة، وتخطّي تلك الحواجز بإصرار وعناد، برغم ما قد يواجهه العشاق من تقريع محتمل ومن تأنيب من محيطهم الاجتماعي وتجاوزهم للخطوط الحمر التي تصبح خطوط نار تحرق العشاق الذين لا يكترثون لها.
ويلفت محقق الكتاب سيد علي إسماعيل إلى أن نص مسرحية “أمانة الحب” يعتبر من النصوص المهمة لعدة أسباب يجملها في تأكيده أن النص ظلّ مخطوطاً ولم ينشر منذ كتابته سنة 1899، حيث يعد من النصوص المسرحية اللافتة والنادرة في زمن كانت الترجمة والتعريب من أهم الصفات الغالبة على النصوص المسرحية، ويعتبر من الآثار المجهولة لصاحبته التي تعتبر من الرائدات العربيات في التأليف المسرحي، والتي كانت تحمل لقب أميرة، ناهيك عن تضمينها قصائدها الشعرية في عملها.
كانت إسكندرة قسطنطين نعمة الله الخوري قد ولدت في بيروت سنة 1872، ثمّ انتقلت إلى الإسكندرية مع أسرتها، والتحقت بمدرسة الراهبات، واستعانت بأستاذ علّمها العربية، ثمّ تزوّجت بتاجر إيطالي يُدعى ملتيادي أفيرينوه، ليُصبح اسمها إسكندرة ملتيادي أفيرينوه، وهو الاسم الذي لازمها منذ زواجها وحتى وفاتها.
أصدرت مجلة “أنيس الجليس” 1898 في الإسكندرية، كما كان لديها صالون أدبيّ وفنّيّ يرتاده عدد من مشاهير مثقّفي عصرها، وقد منحها العديد من الملوك والسلاطين ورجال الدين جوائز وأوسمة رفيعة، منهم السلطان العثماني عبد الحميد والشاه مظفر علي شاه إيران والبابا ليون الثالث عشر، بالإضافة إلى عدة أوسمة أخرى من عدد من الدول حول العالم. وقد طردها الملك فؤاد من مصر إثر اشتباهه بعلاقتها بالخديوي المخلوع عباس حلمي وبالإنقليز وقام بمصادرة أوراقها وترحيلها إلى إنقلترا وظلت في لندن حتى مماتها سنة 1927.
وقد حضرت إسكندرة مؤتمرات في باريس وأوروبا، توثّقت علاقتها بالأميرة الإيطالية فيزنيوسكا التي كتبت وصيتها التي أوصت فيها بتنازلها عن اسمها ولقبها إلى إسكندرة، وعهدت إلى ملك إيطاليا بتنفيذ هذه الوصية بعد وفاتها.
وعندما تُوُفِّيت كتب زوجها إلى إسكندرة يخبرها بوصية زوجته، وصدّق عمانوئيل الثالث ملك إيطاليا على تحويل هذا اللقب إلى إسكندرة. وهكذا أصبحت إسكندرة قسطنطين الخوري، أو إسكندرة ملتيادي أفيرينوه تُدعى رسميٍّا الأميرة ألكسندرة أفيرينوه فيزنيوسكا.
وكان يفترض أن يتم تمثيل نص “”أمانة الحب” المسرحي من قبل فرقة مسرحية معروفة في الإسكندرية في ذلك الوقت، حتى أن المخطوطة التي تم العثور عليها هي مكتوبة بخط أحد أفراد الفرقة المسرحية نفسها، لكن ذلك لم يتم، وبقي النص حبيس المخطوط الذي لم ينشر إلا بعد عشرات السنوات من كتابته.
تدور أحداث المسرحية حول عِشق إيميليا لأمير إسبانيا، الذي رأته مرة واحدة فوقعت في حبه، ومن ثمّ أرسلت له مع خادمها خطابًا موقّعًا باسمها، تعترِف فيه بحبِّها له. فيردّ عليها برسالة قصيرة قائلاً “ليس له عندي جواب”، ذاك الرد الذي سبب لإيميليا أذى وكان نكبة عليها، ثم كان أن تلقت رسالة من أحدهم يعترف بحبه الشديد لها، برغم عدم معرفته باسمها، ولكنه أحبّها منذ أن شاهدها للمرة الأولى على شاطئ البحر، فما كان منها إلا أن ردت بعبارة الأمير نفسها، وكأنها مارست انتقامها من الأمير عبر عاشقها المجهول، وبتصاعد أحداث المسرحية، يكتشف القارئ أن العاشق المجهول هو الأمير المعشوق نفسه، وتنتهي المسرحية بزواج العاشقين إيميليا والأمير.
وتبني الكاتبة فصول مسرحيتها بطريقة المناجاة الشعرية، لدرجة أن المسرحية تبدو مسرحية شعرية غنائية أكثر منها سردية، تضمنها قصائدها وأشعارها التي تثريها بمشاعرها وأحاسيسها وحبها، وكأنها تبلور شخصية بطلتها بطريقة تصور فيها نسخة عن ذاتها باسم مسرحي مستعار.
ومن شخصيات المسرحية -وكان يتم تعريف الشخصيات بالمشخِّصين حينها- الدون كارلوس، وهو أمير إسبانيا، والدون بيدرو، وهو بارون إسباني يزاحم الأمير في عشقه لإيميليا، والدون سيزار وهو كاتم أسرار الأمير، والدون فيليب والد إيميليا، بالإضافة إلى بطلة المسرحية الدونا إيميليا وصديقتها جوليا وخادمها، وعدد من الشخصيات الكومبارس حيث يمثل حضورهم ملء المشاهد بالحركة.
وتستهل إسكندرة مسرحيتها بمقطع شعري تناجي فيه إيميليا العاشقة أميرها المعشوق مفاضلة بين الحب والجمال والإمارة، ومؤكدة له أن الحب لا يقف عند حدود الإمارة أو عتبة المنع والقيد، وتسأله ألا يكفي الجمال لعقد حب يكون به لقلبيهما اتصال، وما إن كان قلب الأمير كالإمارة لا ينال، وتؤكد له أن الألقاب ليست إلا ثياباً تخفى تحتها الرجال، وأن قلب المرء لا يعلو به أيّ لقب أو مال، وترجو الوصال وإلا فستكون عرضة للعذاب المضني.
ثم تكون في محادثة مع خادمتها جوليا، تحدثها كيف أن السر يقض مضجعها، وأن تبقى في انتظار كلمة من أمير قلبها، وتخشى عواقب الحب وحواجز الواقع، وهي التي تجد نفسها أسيرة جماله وسحره وتميزه، في الوقت الذي يكون قد عشقها من دون أن يعرف أنها هي تلك التي تراسله، وتلك الحلقة المفقودة في العلاقة تضفي التشويق على المسرحية، وتبقي الشخصيات مكتوية بلظى عشقها المتأجج.
ويشار إلى أن إسكندرة كانت من الداعيات لإنصاف المرأة وحصولها على حقوقها، نراها تكتب في مجلتها “أنيس الجليس” مطالبة الحكومة حينها بضرورة إنصاف النساء وعدم معاملتهن بطريقة مجحفة تنال من إنسانيتهن. وفي مقال آخر تكتب عن أهمية الفن والكتابة والتأليف في الحياة، تقول إن لِفنِّ الروايات التمثيلية تمام الفائدة الأدبية، إذا أنكرت علاقته بالفائدة المادية، وهو أن الشاعر أو الكاتب لا تؤهِّله حالاته الدنيوية لأن يتعرض لكل شيء، ويكتب في كل فن، فقد تكُون له أفكارٌ ومعانٍ سامية في مواضيع حياتية مختلفة، ولكنه لا يتّفِق له إظهارها في أثناء حياته، فإذا لم يُودِعها الرواية ضاعت معه.
وكانت تؤكد في كتابتها، وبنظرة استشرافية حينها، أن فن الروايات التمثيلية قد حسّن الآداب كثيرًا وأكثر فروعها، وأوجد فيها فنونًا لم تكن تتسع له وحدها، بحيث كان هذا الفن كحياة جديدة جاءت للآداب؛ لأن النظم والإنشاء في طرقهما المعروفة، قد ملّهما الشعراء والكُتّاب، وأمّا الروايات فلا يملها أحد.
يعتبر نص “أمانة الحب” إضافة للمكتبة المسرحية التراثية العربية وتوثيقاً لتاريخ التأليف المسرحي العربي في نهاية القرن التاسع عشر، الذي حمل بذور تنوير لاحق، ويدل على تقدم المرأة العربية ومغامرتها في الكتابة والتأليف، سواء كان في المجال الصحافي أو في المجال الأدبي والمسرحي.