المجموعة “خلجات” “ارهاب”
كلّ شيء كان يوحي بأنّه ينتظر خطابا بأنّه سيعيش واقعة لا قبل له بها اكتسح شحوب شديد قسمات وجهه حتّى بات يحاكي ملامح الموتى، خيّر أن يسير قليلا لينزع عن نفسه ما يؤرقها، وحاول قراءة الملصقات الإعلانيّة التي تزّين الواجهات وأعالي الأعمدة الكهربائيّة فلم يقدر، أخذته الذّاكرة إلى ما كان ومضى، تواترت في مخيلته أفكار وصور كثيرة، وتابعت عيناه الغيوم المسائيّة الخريفيّة، ازدادت حركة المعاني في صدره اضطراما وكآبة أضفت على المكان ضبابا ذا مسحة قاتمة يحجب الرؤية عن كلّ مسافر يبتغي الضياء والنّور..
رأى نفسه ساكنا مدنا لفّها النسيان وهجرها أهلها فصارت مشهدا من مأساويته تدمع عيون الجبابرة، ومن قساوته تتقطع له أوصال الأشدّاء، إنّه الإرهاب، بدأت الصّورة تتجلّى والغيوم تنقشع، شيئا فشيئا، وازدادا خطواته تسارعا كأنهما تقودانه دون إرادة منه إلى حيث موقعة ما كان يحسّها ولا يلمسها، تناهى إلى سمعه، وهو غارق في خيالاته وبقايا رؤى ما انفكّت تضمحلّ الواحدة تلو الأخرى، إلى صوت انفجارات أعقبه صراخ وركض هنا وهناك..
لم تأب ذاكرته أن تنسى ذاك الفصل من حياته، ذاك الدويّ المريع أشعره بأنّه أسقط أسنانه وجلده عن جسده وكلّ شعرة نبتت على أديمه، الأٍرض تحت قدميه رجّت رجا وارتفع الحريق إلى عنان السّماء كأنّه رأس الشيطان يطلّ من فورة الجحيم، كأنّه حمم البركان الحامي بمقذوفاته التي لا تبقي ولا تذر، تحرّك عقله لينتج عبارة “الإٍرهاب”، أجل هو “الإرهاب” حيث القتل والدّمار، حيث إفساد الجمال وتحطيم البناء، هو تلك الحرب غير الشريفة والجريمة التي لا تغتفر، إنّه الاعتداء على ما يملك الآخر من نفس وجسد وكل أدوات الحياة، إنّه الجراح التي لا تندمل مهما طال أمد الزمان، إنّه وصمة عار محال أن تمحى من تاريخ البشر مهما تعاقبت الدّهور، إنّه دعوة إلى الهدم والفناء ..
انتحى جانبا وهو مذهول ممّا وقعت عليه عيناه، من حال وأحوال بني جنسه كأنّهم أدخلوا للتوّ في الفرن بغرض الطّبخ والكيّ والشيّ، رأى فيما يرى الرّائي في وضح نهار “عبوس”، مكفهرّ وقاتم، أنهار من الدّم والعرق تنساب في مجاري الطرقات كأنها دماء خراف نحرت يوم العيد وما هو بيوم عيد، لمح دماء أخرى كثيرة، كأنها الطوفان، اجتاحت الأراضي والحقول والجبال وجرت في الوديان والأنهار والسواقي كأنها شلاّلات لا تنضب..
عايش في لحظات ملايين القصص التي لم تكتب بعد والحكايات التي لم ترو ولم يسمع بها بشريّ قطّ منذ بدء الخلق، أخذته الواقعة كلّ مأخذ، أيقظه من حلم الواقع رنّة هاتفه ورقم زوجته، يظهر على اللوحة المضيئة إلى جانب صورة جماعيّة حضر فيها معها رفقة أبنائه، زفر زفرة عميقة متسائلا، وغضب جامح يفور في كيانه: ألم يفكّروا يوما في نتيجة صنيعهم الشيطاني؟؟؟