السلسلة القصصية “الدنيا حكايات” المجموعة” نوفمبريات” (رواية قصيرة: خوانــجــيّة” )
تفاعلا مع “جلسات الاستماع العلنية لضحايا الاستبداد: أنشر بعض “الروايات القصيرة جدّا”، والمضمنة بالسلسلة القصصية “الدنيا حكايات”، ضمن مجموعة بعنوان “نوفمبريات” (تصدر، إن شاء الله في أوائل جانفي 2017).
طرق خفيف تتصاعد قوّته، شيئا فشيئا، كلّ ما تباطأ أهل البيت عن الإجابة.. هرعت والدته ناحية الباب حتّى إذا بلغته وضعت إحدى عينيها على المنظار الصّغير تستطلع الطّارق.. رجعت سريعا إلى ولدها الصّغير توقظه، تقوقع الصبيّ على نفسه وزاد التفافا في اللّحاف.. سحبت الأمّ الغطاء بقوّة، وهي تزمجر: “قوم يا بليد”.
عندما تأكدت أنّه لا محالة قائم مستيقظ قفلت عائدة إلى الباب تفتحه، وقد ارتسم الانشراح على محيّاها وهي تستقبل الزّائر “مرحبا محمّد.. آشنحوالك وأحوال العائلة.. تفضّل”.. كانت أسارير “محمّد” متهلّلة والوجه يشرق ضحكا، “الحمد لله عمّتي.. سي أيمن ما زال نائم مع النّائمين؟؟ سمع، وهو يكمل غسل أطرافه، والدته وهي تدعو ابن خاله للجلوس على إحدى أرائك صالة البيت الكبيرة.. سمع “محمّد” وهو يحدّث أمّه بأنّه وعد “أيمن” ليأخذه معه لأداء “صلاة الجمعة”.
أطلّ “أيمن” من باب “الصّالة” واندفع في ناحية ابن خاله يسلّم عليه، مبادرا بالكلام:” لقد لبست ثيابي الجديدة، وتوضّأت وقلّمت أظافري قبل ذلك، وأنا مستعدّ للذهاب.. محمّد هل تشتمّ رائحة العطر التي أضعها؟؟ جميلة أليس كذلك؟؟ “.. ضحك “محمّد” ومسح بيده على شعر الولد.. قطعت الأمّ حديث الصغير موجهة خطابها لابن أخيها “يا محمّد الوضع لا يبشّر بخير، والحاكم (تقصد الأمن) في كلّ بقعة.. الأيّامات يشدّوا في المصلّين.. لا سالم لا إلّي يعمل في السياسة ولا إلّي يمشي تحت الحيط..”.
أجاب “محمّد”، كأنّ الأمر لم يكن يعنيه بالمرّة: “واللّه يا عمّتي أحنا لا متاع سياسة ولا يهمّونا جماعة السياسة.. خليهم ياكلو بعضهم.. صلاتنا لله.. لا نصلّي من أجل المناصب ولا للفوز بالكراسي..”.
استطردت المرأة قائلة: ” المهمّ ردّ بالك على روحك وعل أيمن.. راهو أمانة بين يديك”.
ردّ عليها: ” ما تخافش عمّتي أيمن في عينيّ.. وأنا لا أحمله معي من تلقاء نفسي ولكن هو يصرّ على ذلك”.
وصل إلى الرفيقان الجامع الكبير بمركز المدينة، دخلاه فوجدا باحته وبيت الصّلاة تعجّان بالروّاد، جموع غامرة مرصوصة رصّا كأنّه “يوم الحشر”، الجميع كنهمك كلّ في أداء عبدته، فهذا يؤدّي نافلة “تحيّة المسجد” وذاك منشغل بمسبحته يذكر الله ما شاء له الذّكر، وآخرون انغمسوا في تلاوة ما تيسّر من “القرآن الكريم”.. وكثير من خلق الله مطاطاي الرؤوس، مطرقين نحو الأرضيّة المفروشة بالزرابي والحصير المزركشة برسوم المعالم الدينيّة.. قعد حذو “ابن خاله” في أوّل مكان شاغر عثرا عليه بين الجموع ثمّ جلسا ينتظران خروج الإمام.
اعتلى الإمام المنبر وشرع في القاء “الخطبة”، وبدأ بالصّلاة والسلام على النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وسلّم)، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدّين، ثمّ انطلق في التحذير من انتشار الفتنة وبيّن مظاهرها في المجتمع وتعرّض إلى انعكاساتها الوخيمة على المجتمع، لحظات وجيزة تحوّل بعدها لمدح “الرئيس” وسياسة “الرئيس” (يقصد المخلوع بن علي)، وسداد رؤيته مثنيا على حكمته وتبصّره ثمّ عرّج بسيل من الدعاء للرئيس ومن ولاه من الساسة.. حينها صرخ أحد المصلين بصوت مرتفع: ” الكلام هذا حقّك تحكيه في الشّعبة موش في الجامع.. زيد شويّة وتردّلنا وليّ نعمتك نبيّ ونقولو عليه الصّلاة والسّلام..”.
هاجت بيت الصّلاة وماجت.. انطلق عدد لا بأس به من الشباب والكهول في التكبير وأطلقوا الألسنة لاعنة الإمام شاتمة “المخلوع” ونظامه.. اشتدتّ الجلبة وعلت الضوضاء الجامع وصحنه الكبير.. ارتفع صراخ الشباب وكثير من المصلين غير مدركين بأنّ قوّات الأمن كانت تحاصر المكان من جميع جوانبه.
تدافع المصلّون إلى الخارج هربا من دخان “لاكريموجان” الذي أطلقه أعوان الأمن في محيط الجامع بعد التحامهم ببعض الشباب في محيط “بيت الله” الخارجي.. تسرّب “الغاز المسيل للدموع” إلى الدّاخل.. حمله “ابن خاله” على كتفيه، وكان بحر الخليقة الهائج يموج بعضه في بعض، قصد به مثل كثير من الهاربين ناحية الباب الخلفي الصغير حيث مقصورة الإمام الصغيرة، ومنها يدخل هو والمؤذّن والمنظفّ دون سواهم.. تناهى إلى سمعه أحاديث وخطابات من المتدافعين أقرب إلى اللّغط منها إلى الكلام.. أقرب النّاظرين خارج الجامع.. أبلغ من في الدّاخل أن الأمن اعتقل “فلان” و”فلتان” و”علاّن” وووو.. ازداد الخوف ودبّ الهلع في قلوب الجموع المنحشرة حشرا.
مازال يذكر تلك الواقعة، تستحضر ذاكرته كلّ حيثيّاتها، يحفظ عن ظهر قلب المسالك التي سلكها “بن خاله”، وهو يحمله بين كتفيه، يتذّكر ما قاله “ابن خاله” لمصلّ آخر كان يهرول إلى جانبهما تابعا المسالك نفسها.. قال “محمّد” للمرافق الرّاكض: آنا ما يهمّنيش في روحي آما الوليّد إلي معايا أمانة يلزمني نرجها لأمّاليها”.
مازال يذكر تلك السنوات التي أطلق عليها “سنوات الجمر”.. يذكر كيف اكتسحت توصيف “خوانجيّة” أرجاء حيّه والأحياء المجاورة بل كلّ جهات البلاد.. كانت تتكرّر على مسامعه في البيت والمدرسة والشّارع وأينما حلّ.. الجميع يتجنّب أن يتفوّه بـ “العبارة”، والكلّ يتبرّأ ممن تلتصق به الصفة من قريب أو بعيد.. لم يكن عهدئذ يستسيغ معنى “الكلمة” لكنّه يرى النّاس ترهبها وتخشاها، وتصفرّ الوجوه من ذكرها.. مرّة سأل من سأل، فردّ عليه “سي أيمن النّاس إلي يقولولهم خوانجيّة معناتها أقرى عليهم سورة الفاتحة”.