المجموعة “خلجات” “فارس بلا جواد”
ذهب ولم يحمل معه فكره، كانت العتمة تتراءى له على أنّها مكمن الصّراع الذي يلمّ بذاته ويختلج في دخيلته، حسب نظراته تتقطّع قبل وصولها إلى مبلغها، خال بصره يرجع إليه خاسئا وهو حسير، أحسّ كأنّ نفسه تفقد أنفاسها، رفع رأسه فوجد حالته تتبدّل وصرح المكان، على جموده، لا يحرّك ساكنا لم يجد سبيلا سوى الرحيل إلى حيث مدافن العزّة والشهامة.. إلى حيث مقابر الشرف والكبرياء، كان لا بدّ له من السّفر حتّى يشيّع تلك النفس الكريمة التي عرفها وعايشها إلى مرقدها البرزخي، نفس عانقت البهاء ونفرت الدهاء، ارتقت إلى علياء الإبداع وعزفت عن سفوح الإسفاف، نفس نبذت طلاسم الزيف وفتحت أبواب رياحين الصدق على الأنوف المستنشقة الغامرة ولم تحجبها عن الخياشيم الزّافرة.
حاول الذّهاب إلى عالم أرحب يريح عقله ويسعد عاطفته، فلم تسعه العوالم بعظمة سعتها وخرافيّة اتساعها، لم يجدّ بدّا من أن يلقي بأبطال خيالاته جانبا، ويعود إلى محطّة الحياة فيركب رتلها، وينتظر مع المنتظرين مفاجآت السّفرة وينصت مع المنصتين لطقطقات السكّة وينظر مع النّاظرين لقوام مسارها ومنعرجاته، أفكار تلمع في عتمة المسير ونورانيّات تروح وتغدو في قلب متبصّر بأقاصي الغيب، كأنّ تاريخ البشريّة يخترق دماغه وكأنّ ملاحم الحضارات الإنسانيّة مرّ شريطها في أعماق تفكيره وتغلغل في قلب ذاكرته المتأجّجة.
كأنّ فرسا ماجدة، مسرّجة مطهمة تحمله وهي تركض به مغالبة الريح ومعاندة السّحاب، تخترق به السماوات لتبلغ به عالم الغيب، لترسو عند سدرة المنتهى حيث خالق الأكوان ومسيّر الزمان والمكان، تختفي فرسه فيجد نفسه أمام بارئها لا تحتاج فرسا ولا تحتاج جواد، هو في حضيرة الكمال وفي حرمة الروعة والجمال، نظر إلى أسفل الغيب، نظرة انسان كان قبيل برهة في حضيض النسيان فصار في لمحة البرق في حضرة الرحمان.. عرف أنّه في الدنيا كان يجري جري النعيمة ويركض ركض البهيمة.. كان يظنّ نفسه فارس الفرسان وملك الزمان، خال صهوات الجياد لا تنزل إلاّ لعجزه، فانكشف عنه بصره فوجد أنّه “فارس بلا جواد”.