“المجموعة: خلجات”: ” حديث نفس “
وقف على ناصية آخر الطريق المتموّجة في منتهى الزّقاق متوسّط العرض معتدل الطّول، التفت برأسه عن يمينه ناظرا عبر نافذة السيّارة الجانبيّة.. أوقف العربة.. هدأ ضجيج المحرّك.. أخذت هاتفه وطفقت الأصابع تعمل بعزم منه ودون إرادة من نفسه.. شرعت الأنامل في الكتابة فإذا هي النفس تصدح وتقول:”.. تذكّرني أحزان إنسان عزيز عليّ بكلّ آلام ومآسي البشر.
تذكّرني الأفراح بأحزاني وأتراحي، وتفيض في نفسي كؤوس الذّكرى المؤلمة وتدقّ أجراس نواقيسها في قلبي وعقلي، كأنّي في بعض الحين أركب بحارا يلفّها ظلام معتّم دامس، لم ير له البحّارة مثيلا ولا شبيها، حتّى أولئك الخائضون، عبر الأزمنة البعيدة، في عباب المياه الصّاخبة المزدحمة بالأمواج العاتية، في بعض الأحوال ألمحني أمتطي سفينة موحشة شاكلتها، غامضة نقوشها، على سطحها اجتمع قراصنة من ذوي السّحنات الفجة والأصوات الفظّة من ذوي الملابس الدّامية المقززة، كانوا في الصّورة يقهقهون، يترنحون يمنة ويسرة، كأن السّكرة أعمتهم حتّى “خبّلتهم”، إذا رأيتهم ولّيت منهم فرارا، ولك تسخر لقهقهاتهم كأنهم يتضاحكون على ذواتهم وضياع عقولهم وفحش حيوانيتهم، أو كأنهم يضحكون من بحارة ضعاف خفاف وضعهم تعس الحظ في طريقه الوعرة.
لمع برق يخطف الأبصار وأعقبه رعد يصمّ الآذان.. تحول عقلي بالفكر إلى وجهة مخالفة وزمان مغاير.. رأيت ذاتي محورا للحدث والحديث في سير لم تر النور بعد ولم تأت عليها كتب التاريخ بكل مصنّفاته، لم أجد بدّا من أن أرجع بهواجسي إلى صدر يستعر حيرة وتساؤل، تندّ عنه بين الفينة والأخرى حشرجات عميقة واعتمالات باطنيّة بلا تفسير، وقتها اختفت من قاموسي كل سكينة وهدوء.. اضمحل عندي كل وصلات العواطف والحلم والأمل.. في الوقت نفسه اجتاحني شعوري لا يوصف بقوة هائلة تجذبني نحو “الإنسانية”.. أساس تشكّل نواتي البشرية كغيري من بني جنسي.. لم تنظر نفسي إلى أي اختلاف قدر ما نظرت إلى آدمي يشعر وله ذات وعواطف وفكر وثقافة.
تعلّقت بكلّ معاني الرّفعة والأنفة، وكلّ ما تراءى لي أنّه مثال وكرامة وكبرياء، تمسّكت بكلّ ما حسبته عشقا وغراما، تشبّثت بكلّ ما خلته جمالا وأملا، فكأنّي بكلّ الغيوم تنجلي وتتحوّل العتمة ضياء والظلمة قبصا منيرا.. كأنّي بنفسي أتحوّل من صلابة وقسوة أولئك الجبابرة والقياصرة إلى ليونة وبرّ رجال السّلام.. كأنّي انتقل من السّكن من غابات دهماء من زمن “صهبّاء.. صهبّاء” تسكنها الوحوش الضّارية الكاسرة، ونباتها الشّوك والأشجار المخيفة والأحراش المريعة إلى جنّات غنّاء تغلب عليها الخضرة والنضارة ونور يخلب الألباب.. جنات نباتها الورود والريحان.
ترشّفت بعض من القهوة السّريعة.. أرجعت الوعاء الكرتوني الذي يحويها إلى مكانه المخصّص لوضعه.. ثم واصلت الأصابع عملها:” دوام الحال من المحال.. الحياة يوم لك وآخر لغيرك.. وقائع الوجود مثل كلّ ابن آدم.. هي متقلّبة لا ثبات فيها.. الكمال لله.. لا تكون لصالحك إن رغبت وأصررت وتكون العكس إذا ما أردت العكس.. سفينة الأفكار لا تأبى التوقّف وقافلة الدّنيا تحملني بعالمي إلى مواقع كثيرة وأفكار غزيرة تتأرجح بين الوضوح والاختبال.. أطير بجناح الخيالات فوق جزر وضفاف وشواطئ وجبال وصحار.. مشاهدتها تجعلني احتكم على كنز من العبارات النورانيّة الرّقيقة والرّاقية.. نهر خالد من التعابير.. ينابيع تنضح بالكلمات.. تلك سمة الحياة عندي.. وجه من الحياة”.
تفقّد مفتاح العربة في مكانه.. جال بعينيه على جانبي الطريق.. تأمّل لبرهة لوحة القيادة.. أدار المفتاح زمجر المحرّك.. اشتعلت الأضواء لتنير عتمة الطريق الضيقة.. وضع رجله على دواسة البنزين.. أنزلها شيئا فشيئا، وانطلق إلى حيث شاء وقدّر له الانطلاق.