يعاني سوق الصرف في تونس من اضطراب كبير ما انفكّ يتفاقم لا سيما باكتساح ظاهرة صرف العملة الصعبة في السّوق السّوداء عبر نقاط ممنوعة ووسطاء غير قانونيين، والتي غذّتها واستفادت من تراجع السّلطة الرقابيّة للدولة لتتوسّع على كامل تراب الجمهوريّة بعد أن كانت محصورة في المناطق الحدوديّة، حيث يؤكّد الخبراء أنّها صارت تهديدا مخيفا عواقبه وخيمة على الاقتصاد الوطني ككلّ وعلى الماليّة العموميّة خاصّة وأنّ مئات المليارات يتمّ تداولها سنويّا خارج الأطر الرسميّة في هذه الأسواق.
“باب بحر” حجم تداول يومي يفوق الـ 150 ألف دينار تونسي
لم تعد التّجارة الموازية في تونس تقتصر على السلع والبضائع من بنزين وتبغ وملابس ومواد كهرومنزلية مهرّبة من القطرين المجاورين لبلادنا ليبيا والجزائر بل تشمل كذلك سوق “الصرف، ويسمّى القائمون عليها بـ”الصرّافة”، هذه الظاهرة ولئن بدت بارزة للعيان أمام المواطن والمسؤول في جهة بنقردان وأغلب الطرقات بداية من قابس الى “راس جدير” فإنها لم تكن كذلك بالنّسبة الى صرف العملة الجزائرية في تونس حيث غالبا ما تتم بعيدا عن أنظار العموم ويتعمد اصحابها اتباع طرق سرية وتمويهية قصد عدم الوقوع في فخ الامن ونتحدث هنا عن مكان صرف العملة بطريقة عشوائية ولا شرعية في منطقة “باب بحر” بالعاصمة وتحديدا في الأماكن والأنهج المجاورة لما يسمى بـ”قوس باب بحر”.
وليس من السّهل أن يقبل صراف تونسي للعملة الجزائرية بباب بحر أن يتحدث مع شخص له لهجة تونسية ونادرا ما يحصل هذا الا في حال اقناعه بأنك مصر على صرف مبالغ للتوجه الى الجزائر ممتطيا سيارة أجرة راسية بمحطة “باب بحر” أغلب هؤلاء الصرافة يأخذون حيطتهم من أعين المارة سواء للمواطن العادي أو رجال الأمن، فيدقّقون النظر باحثين عن حرفاء جزائريين لصرف العملة.
وقد أكّد أحد روّاد المكان في شهادة ضمّنت ضمن مقال صحفي نشر في منتصف 2015 أن “حجم التّداولات المالية السريّة في منطقة باب بحر قد تصل يوميا الى مبالغ تفوق الـ 150 ألف دينار تونسي بجميع أصناف العملة المتداولة، أورو، دينار ودولار”، لافتا إلى أنّ “الكثير من المواطنين الجزائريين يخيرون العودة من أوروبا الى بلادهم عبر مطارات أو موانئ تونسية لصرف العملة الاوروبية في تونس وكذلك الأمر بالنسبة للسياح الجزائريين القادمين من الجزائر الى تونس”.
وأضاف الشّاهد “تختلف أسعار العملة باختلاف الظروف الاقتصادية والأمنية والسياسية ويحتكم الصرّافة في غالبية الأحيان الى تحديد هوامش الربح بالنظر الى السعر الرسمي للصرف في المؤسسات البنكية فيكون التخفيض غالبا بدينار الى قرابة الثلاثة دنانير”.
ملاذ آمن من الضّرائب
في شهادة أدلى بها احد السّياح الجزائريين عن سوق تداول العملة في منطقة “باب بحر” اعتبر أنها تمثل “ملاذا آمنا لعديد المواطنين ممن يتهربون من الضرائب البنكية على صرف العملة وغالبا ما يكون الفرق واضحا في هامش الربح ويصل في الحالات القصوى الى 5 دنانير اذا ما قمنا بصرف مائة دينار جزائرية والحال ان البنوك والمؤسسات المالية الرسمية غالبا ما تشهد ضغطا سواء في اسداء الخدمات أو في ترفيع هامش ربحها في بيع العملات الاجنبية”، لذلك يلجأ ابناء بلده، وفق تعبيره، الى القيام بعمليات الصرف في مثل هذه الأماكن، قائلا: “أصبح أمرا عاديا هذا النشاط أمام غياب مراقبة رسمية”.
ولفت الشاهد الجزائري إلى أن “حرية الاختيار في تحديد سعر الصرف تبقى موجودة أفضل من اجراءات البنوك واجحافها في اقتطاع العمولات، منبّها الى أن عددا لا بأس به من الجزائريين تعرضوا الى عمليات تحيل واضحة في حصولهم على أموال مزيفة ورغم تشكياتهم الا انهم لم يظفروا بحقوقهم ومنهم أحد أصهاره”.
هل عجز السلطات؟؟؟
بالحديث عن دور الأجهزة الرسمية وخاصة الجهات الأمنية في القضاء على هذه الظاهرة أفاد أغلب ممن شملتهم التحقيقات الصحفية أن “أعين الرقابة تنظر بعين وأخرى مغلقة أمام تواصل هذه الأنشطة التي يصعب على الدولة القضاء عليها بالرغم من أنها تكتسي جانبا سريا في مجمل عملياتها مقارنة بنفس الأنشطة في مناطق الجنوب التونسي وخاصة مدينة بنقردان التي تشهد أكشاكا ومحلات معدة للغرض”.
ولئن كانت معظم المدن الحدودية في العالم تعيش هذه الظاهرة وسط “عجز السلطات” عن القضاء عليها فإن بوادر الحد من تفاقمها في تونس تحاصرها تذمّرات من المواطنين خاصة في جهة بنقردان من ذلك برمجة انشاء طريق سيارة تمر من راس جدير الى مدنين مباشرة دون المرور عبر بنقردان هذا المشروع الذي ينتظره الجميع لإضفاء الحيوية وتسهيل عبور السلع والاشخاص يراه الصّرافة طريقا لقطع ارزاقهم التي يأويها شارع بالطول والعرض اسمه شارع الصرف بمدينة بنقردان.
بين بن قردان ورأس الجدير: تجارة العملة تغزو الشّوارع
رغم انتشار الوحدات الأمنية تنتشر بمختلف أسلاكها من أعوان حرس وطني حدودي ووحدات التدخل والعساكر بين بن قردان ومعبر راس الجدير في مسافة تقدر بحوالي 25 كم فإنّ العشرات من تجّار العملة الصّعبة يتوزّعون على أرصفة الطرقات الرئيسية والفرعية لبيع العملات الأجنبية وشرائها على غرار الأورو والجنيه اللّيبي والدولار الأمريكي كما تتخذ هذه المجموعات من بعض الأماكن المهجورة ببن قردان وخارجها أوكارا لها.
وتفيد المعلومات الرّائجة أنّ يتم يوميّا بيع وشراء مبالغ ضخمة من العملة الصّعبة على أرصفة الطرقات وأمام أعين الوحدات الأمنية، وقد أكّد مسؤول أمني ميداني في تصريح لإحدى الدوريّات الصحفيّة التّونسيّة أنّ “الأجهزة الأمنية على علم بهذه التجارة وتعرف أسماء كل من ينشطون في هذا المجال”، مضيفا أنه “لا يوجد إرادة سياسية لإيقاف نزيف هذه التجارة غير القانونية والتي تتسبب في أزمات بالجهة”.
وذكر المسؤول أنّ التقديرات تشير إلى أنّه عمليّات البيع والشراء تبلغ قيمتها أسبوعيّا ما يعادل 10 مليارات من مليماتنا، وأنّ هذه التجارة تستقطب الشباب وتغريهم بسبب الربح المالي الكبير الذي يتم جنيه من قبل الوافدين والمغادرين للحدود التونسية.
في تقرير لـ”مراسلون”: بن قردان المدينة الأكثر انتعاشا من صرف العملة
نشر الموقع العالمي المعروف “مراسلون” تقريرا بتاريخ 13 أفريل 2016 ضمنّه تأكيدا بأنّ “بن قردان تعدّ المدينة الأكثر انتعاشا من تجارة العملة الصعبة، بالرغم من أن هذا النوع من التجارة يعتبر مخالفا للقانون الذي لا يسمح لغير البنوك من النشاط في هذه التجارة”، لافتا إلى أنّ “تجار سوق العملة ببن قردان اغتنموا منذ أشهر انهيار قيمة الجنيه الليبي مقابل الدينار التونسي لتخزين مليارات من جنيهات في منازلهم ومحلاتهم قصد عرضها في السوق فور بلوغ قيمة العملة الليبية حجم الدينار التونسي”.
ووورد في التقرير أنّ “شارع الصرف” كما يحلو للأهالي تسميته هو ملجأ لمئات المواطنين الراغبين في الحصول على “الأورو” والدولار الأمريكي”، وأنّ “هذه المحلات تمكنهم من شراء أي مبلغ من العملة الصعبة عكس القانون التونسي الذي لا يسمح للمسافرين إلى الخارج إلا بتحويل مبلغ لا يتجاوز 6 آلاف دينار (3 آلاف دولار) عن طريق جوازات السّفر”.
ويذكر تقرير “مراسلون” أنّ “نقاط الصرف لا تخضع في هذه السوق لأي نوع من أنواع الرقابة الحكومية رغم أن رأس مال المحلات يتراوح يوميا بين 8 و10 مليون دينار (بين 4 و5 مليون دولار)، وفق تقديرات التجار”، وأنّ “هذه المحلات كذلك في مجال الوساطة المالية بين تجار بلدان المغرب الكبير، حيث بإمكان التجار الجزائريين أو المغاربة اعتمادها لتحويل مبالغ مالية هامة لشركائهم الليبيين من أجل الحصول على شحنات البضائع دون الالتجاء إلى التحويلات البنكية التي قد تعرضهم لمحاسبة مصالح الرقابة في بلدانهم”.
ويقول التقرير: “لا ينفي بعض المسؤولين المحليين في بن قردان أن هذه المدينة تعيش بمنظومة “الدولة داخل الدولة”، نظرا لاحتوائها أنشطة ممنوعة قانونيا لا ترغب الدولة التونسية في الوقت الحالي التصدي لها خوفا من انتفاضة الأهالي”.
“حي التّضامن” “صرف العملة بالمكشوف”
في إطار عمل الصّحافة الاستقصائية، نشر تحقيق بتاريخ 5 فيفري 2016 أظهر أنّ “سوق سوداء” لصرف العملة الصّعبة تمركزت بقوّة في “حيّ التّضامن” بالعاصمة، حيث ازدهرت عمليّات بيع وشراء العملة الصعبة داخل مقاه بالجهة وعلى الارصفة وفي غيرها من الأماكن.
ويقول التّحقيق الصحفي: “قبل أن تقرّر شراء مبالغ مالية من العملة الصّعبة عليك أن تعتمد على أحد عناصر شبكة التهريب ويلقب في صفوف المهربين بـ “المرشد”، وهو حلقة الاتّصال بين “المعلّم”، أي التّاجر والزبون وإن نجحت في كسب ثقة “المرشد” ستفتح لك أبواب خزينة التهريب وتشتري المبلغ الذي تحتاج اليه من العملة الصعبة دون اي صعوبات ومهما كانت قيمة المبالغ التي تريدها”.
وتؤكّد المعلومات التي تضمّنها التحقيق أنّ “تجارة العملة الصعبة في بعض أنحاء “حيّ التضامن” لم تعد تنشط بسرية داخل محلات تجارية أو مقاه بل أمست تباع بالمكشوف وعلى الارصفة أمام أعين الجميع، حيث لا تسمع إلاّ العبارات التّالية “تشري تشري” و”عنّا الأورو والدولار، كما تثبت هذه المعلومات أنّ رواج تجارة العملة الصعبة تتوزّع على أحياء “التّضامن” و”النّقرة” و”الانطلاقة” و”دوارهيشر”، ولكن أكثر من 70 بالمائة من نشاطه يمارسه في حي التضامن ويملك شبكة من العلاقات تساعده على التنقل وبيع العملة الصعبة بحرية تامة دون ان يتعرض لأي مساءلة قانونية.
الأطفال والشباب ضحايا والمخدّرات على الخطّ
وتقول التقارير الصحفيّة المنشورة أنّ السّوق السّوداء لصرف العملة في بعض النقاط ينشط فيها أطفال لم تتجاوز بعد أعمارهم 15 سنة وشباب في العشرينات تمّ اقحامهم لترويج العملة الصعبة من خلال إرسالهم إلى هذا الحريف أو ذاك في مكان محدّد لتسليم واستلام العملات في إطار عمليّة البيع والشّراء، حيث تؤكّد التقارير نفسها أنّ هؤلاء الأطفال والشباب يتعرّضون في الإثناء إلى جميع أشكال الاستغلالبالنظر إلى أنّ الذين يتحكّمون في السّوق هم من أصحاب السّوابق العدليّة والمهرّبين وتجّار المخدّرات.
من منــظور القانون
تخضع للتصريح لدى مصالح الديوانة عند الدخول أو الخروج أو العبور كل عملية توريد أو تصدير عملة أجنبية تعادل قيمتها أو تفوق مبلغ 10 آلاف دينار تونسي (قرار وزير الاقتصاد والمالية المؤرخ في 17/10/2014 يتعلق بتنقيح القرار المؤرخ في 10/09/2004 المتعلق بتحديد المبالغ المنصوص عليها بالفصول 70 و74 و76 من القانون عدد 75 لسنة 2003 المؤرخ في 10/12/2003 والمتعلق بدعم المجهود الدولي لمكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال).
ويوضّح أحد الخبراء في القوانين ذات المنحى الإقتصادي أنّ القانون التونسي لا يسمح لأي جهة ما عدا البنوك للقيام بعمليات الصرف وهذا ما جعل السوق السوداء تغزو البلاد حيث ان هذه المؤسسات البنكية تغلق ابوابها بعد الساعة الرابعة مساء مما يجعل الوافدين من المغرب العربي او الاجانب يعتمدون على تجّار العملة.
ويرى هذا الخبير أن “الفصل 46 من قانون مالية 2016 كان سيقنن عمليات الصرف عبر مكاتب وشركات قانونية ولكن وقع الطعن فيه من المعارضة بتعلة أنه يخدم قانون المصالحة وقبلت المحكمة الدستورية اسقاط 5 فصول منه من بينها هذا الفصل الذي كان سيكون بمثابة النهاية لتجارة العملة الصعبة”.
ووصف الخبير اسقاط الفصل 46 من قانون المالية لسنة 2016 بأنه “نابع من قرار سياسي”، معتبرا أنّ المشرع التّونسي لم يساهم بصورة ايجابية في ايقاف نزيف الظاهرة” التي قال إنّها “تسبّبت في خسائر ضخمة للاقتصاد التونسي وجعلت الحكومة التونسية تتداين من أجل الحصول على العملة الصعبة في حين أن أسواقنا المحلية مدجّجة بها.
مكاتب لصرف العملة
“تمكين الأشخاص الطبيعيين ممن ستتوفر فيهم الشروط اللازمة من فتح مكاتب لصرف العملة وذلك للحدّ من الصرف العشوائي وللقضاء على القطاع الموازي”، هذا أبرز ما ورد في إطار مشروع قانون المالية التكميلي لسنة 2014، وهو الأمر الذي سانده الخبير الاقتصادي “محمد الصادق جبنون”، الذي اعتبر أنّ “هذه التجربة معمول بها في عديد البلدان المؤثرة اقليميّا ودوليّا كماليزيا وتركيا وكندا، وقد أثبتت نجاحها، والأشخاص في هذه الدول يتوجهون إلى مكاتب الصرف أكثر من البنوك”، مشيرا إلى أن “هذه المكاتب ستمّكن من احتواء العملة الصعبة ومقاومة السوق السوداء وتشغيل أصحاب الشهائد الجامعيّة”.
وقال “محمّد الصادق جبنون” إنّ “نجاح مكاتب الصّرف في تونس يبقى رهين حسن التنظيم والتجهيزات المتاحة وآليات المراقبة داخل مكاتب الصرف التي ستمّكن من احتواء العملة الصّعبة المتداولة في الأسواق التونسية وكذلك الحدّ من نشاطات الأسواق الموازية، مؤكّدا أنّه ” حان الوقت للسماح للتونسيين المقيمين في تونس بأن تكون لهم حسابات ادخار بالعملة الصّعبة، وهذا الإجراء يتطلب تعديل مجلة الصّرف لتصبح في نفس مستوى البلدان الأوروبية وحتّى بعض الأقطار المغاربيّة ممثّلة في كلّ من الجزائر والمغرب”.
وأكّد “جبنون” أنّ “مكاتب الصرف”، إن أحدثت، ستضفي حركية اقتصادية نشيطة ومجدية وستجنب الدولة ما يصطلح عليه بـ “الإتاوات الترقيعية”، كما ستمكّن من توفير مئات أو حتّى آلاف من مواطن الشّغل للمختصين في النقديات والمتخرجين من المعاهد العليا ذات العلاقة الذين يعانون البطالة، منتهيا إلى القول: “الإشكال الذي سيطرح هو التمشّي التدريجي والإجراءات المعقدة التي سيضبطها البنك المركزي لفتح هذه المكاتب، باعتبار انّ البنك سيحيط هذه التجربة بعدد هام من الاحتياطات والتدابير القانونيّة”.