لبنان الصغير.. أبناؤه كبار
من خير الأقدار أن أتيح لي يوما أذكر عنه كلّ تفاصيله وأستحضر له جميع دقائقه، 4 ساعات قضيتها في “مطار رفيق الحريري الدولي”، في تلك البقعة الوارفة من أرض الله الواسعة حيث شطّ بيروت يكاد يلامس أرض المطار وحيث تقرب عيناك من أن تلامس اسفلت الشوارع الرئيسيّة التي تقابلك وأن تتصفّح البلد من إحدى نوافذ قاعة الانتظار الطويلة العريضة السّاكنة بأهلها الصّامتون إلى من جرجرة الحقائب وضحك الصّغار أو بعض الهمسات والهمهمات والتمتمات هنا وهناك بين هذا أو ذاك أو تلك أو أولئك.
دخول “رئيس دولة” لقصر “بعبدا” بعد أنّ ظلّ لبنان بلا رئيس منذ 2014 أثار ريح بلد شجرة السافانا والجبل وعمالقة الأدب والفنون وعظماء الفكر والثقافة ويكفي أن تذكر اسم البلد فتخرّ الذاكرة الصمّاء تتقن فنّ الخطابة، واقع وتاريخ لا مجاملة وتملّق، دغدغت أنفي ريح لبنان الشذيّة بجوه المعتدل المنعش المائل نحو البرودة، بتلك الوجوه الممزوجة بهواء الشّام وشذى العروبة العليل ونسمات أوروبّا القادمة من التاريخ البعيد.
دغدغت رأسي أسماء قامات عالية المؤرّخ “أسد رستم”، الأديبان “ميخائيل نعيمة” و”جبران خليل جبران”، الشّاعران “سيّد عقل” و “خليل مطران”، جبل لبنان الشّاهق “وديع الصافي”، “سيّدة الصباح فيروز” “الشحرورة صباح”، كثيرون من عمالقة الأدب والفنون اللّبنانيين كبروا وكبر من خلاله لبنان الصغير جغرافيا حتّى بلغ قرص الشّمس.
دغدغت أذناي تلك اللّكنة المميّزة لأهل البلد التي قيل وحقّ القول أنّها قلب الشّاميّة، وقال عن لبنان العرب والإسلام والمسيح والفرنجة والدرز والمطارنة والبطاركة وما خلق الله من أمم وملل ونحل مختلفة في بلد لا يتجاوز بحيرة صغيرة في دولة أيضا صغيرة، ذكّرني الإجماع على “الرئيس” الجنرال السابق “ميشال عون” بتلك البقعة القصيّة الدنيّة التي عرفت بتقدير واجماع نحاة السياسة وبواكير الأثر السياسي أيضا، عرفت أوّل “فتوحات الديمقراطيّة”، وعاشها شعبها.. عاشها لمدة تتجاوز الثلاثين عاما.. الديمقراطيّة شاخت في بلد صغير جدّا وصغرت حتّى ناظرت “الخدج” في بلدان مسنّة وتحسب أنّها عجوزة من حيث التسمية والتاريخ.. بلا رئيس لكن أرض فيها شعب له سلطة وسيادة ويمارس حقوقه وواجباته في نطاق القانون.
استحضرت ذاكرتي كل ثانية أمضيتها في صالة المطار كان عبق التّاريخ ينسلّ من تلك العتمة التي جثمت على المكان والشمس شارفت على المغيب، أضيئت الشقق المتراصّة على نواصي الشوارع المنيرة بأضواء الكهرباء العامّة، وبأضواء السيّارات التي بدى حثيثها كجيش من النمل ذي الحجم الصّغير، أو هكذا كانت تتراءى من بعيد.
مضى الزمن أسرع من وميض البرق حتّى إذا حلّ موعد المغادرة طويت جريدة محليّة كنت قد اقتنيتها من أحد الأروقة المتلاصقة لفضاء السّوق الحرّة بالمطار، طويتها وطويت لحظات نحتت في البال وانغرست في القلب.. مشاعر كثيرة كانت تتقاذفني كالأمواج المتلاطمة، جلست في مكاني على الطّائرة وتحسّست ريح وطني، تونس وبدأت استنشق عليلها الأخضر، وفي النفس تدندن كلمات من قبيل الإدراك وعلى شاكلة اللاّوعي “وكرك وكرك”.
تحيّة بسيطة من شخصي المتواضع إلى الأشقاء في لبنان، وكلّ الدعوات الصّادقة بموفور التقدّم وتحقيق التقارب والتعايش السليم.