“حكومة الوحدة الوطنيّة” دلالات المبادرة بين تجاوب المعارضة وفرص النجاح
المبادرة التي أعلنها رئيس الجمهوريّة الباجي قائد السبسي بإنشاء ما أسماه “حكومة وحدة وطنيّة” فاجأت قطاعات واسعة من الرأي العام التونسي بل والعالمي أيضا على اعتبار أنّ حكومة الحبيب كانت إلى حدود الأمس القريب تمضي في التخطيط والإنجاز بمباركة الأحزاب الحاكمة بالبلاد، حيث ذهب عديد المتابعين إلى أنّ “الصيد” هو إلى حدّ الأمس القريب بالنسبة لـ “السبسي” صمّام الأمان خلال الخماسيّة الأولى من مشروع البناء الديمقراطي، لكن يظهر أنّ كثيرا من الحسابات سقطت في الماء.
مباغتة
ربّما حالة من الاستغراب سجّلها فاعلون في مواقع القرار وآخرون في مؤسسات وهياكل رسميّة لها علاقة بمسألة الحكم وشؤون الحكومة، لا سيما في ظلّ ما أمسى يثار من تساؤلات حول إقدام “الرئيس” أو الأطراف المعنيّة على اتخاذ هذه المبادرة “المباغتة” والتي كانت مستبعدة إلى حدّ كبير، خاصّة في وقت كان فيه رئيس الحكومة يحظى بتوافق واسع خاصّة حول شخصيته المجتهدة والحيادية كما يصفها كثير من الملاحظين ومن أشخاص قريبين من الرجل، في وقت كان فيه “الصيد” يتحرّك في الدّاخل والخارج من أجل تجسيم ما ضمّن في فحوى المخطّط” الخماسي المرتقب للتنمية المزمع تنفيذه في الفترة 2016 – 2020.
ويقول محلّلون أنّ تداعيات فجئية القرار ليست في خلفيّاته ولا تكمن أيضا العوامل المخفيّة المتوارية عن الأنظار المؤدية له بل في انعكاسات جدّ سلبيّة سيتكبّدها المواطن التّونسي الذي اعتقد أنّ من انتخبهم ووضع فيه ثقتهم هم اليوم قطعوا أشواطا لا يمكن العودة عنها، مخططات تنمويّة واقتصاديّة ومشاريع وطنيّة ومحليّة استكملت على الورق ومنها من تمّ الشروع في تنفيذه في مجالات شتّى منها الصناعة والتجارة والعمارة والبنية التحتيّة، وفيها ما هو موزّع على الثقافة والبيئة.
موقف السّبسي: الشيء وضدّه
في المستهلّ علينا العودة إلى التصريح الذي أدلى به الرئيس الباجي قائد السبسي يوم الخميس 9 جوان 2016 نافيا عن نفسه كونه المبادر بمقترح حكومة الوحدة الوطنيّة حيث أكّد بمناسبة لقاء جمعه بمكونات “الائتلاف الحاكم” و”الاتحاد العام التونسي للشغل” و”منظمة الأعراف” بأن مقترح تشكيل حكومة وحدة وطنيّة لم تكن بمقترح منه وأنّ المبادرة طُرحت من قبل عدد من الأحزاب التي تكثّفت الاتصالات والمشاورات معها.
وجدير بالذّكر أنّ رئيس الجمهورية كشف أيضا أن مجموعة من الأحزاب تقدمت إليه بمقترحين أولهما حكومة إنقاذ وثانيهما تشكيل حكومة وحدة وطنية، مؤكّدا أنّه تمّ القبول بالمقترح الثاني وأن حكومة وحدة وطنية المقترحة لن تنجح دون أن يشارك فيها “اتحاد الشغل” و”منظمة الأعراف”، وأضاف قائلا: “إذا رأيتم أنه لا جدوى من تغيير الحكومة فقد قضي الأمر”، وهذا ما يكشف أنّ المبادرة لم تكن، على الأقل استنادا إلى التصريحات الرسميّة، ذات أبعاد شخصيّة أو لغاية “إعادة التموقع” كما فسّر ذلك كثيرون بالنسبة للنداء كحزب مهيمن على الحكومة وصاحب القرار الأوّل في البلاد، أو لإعادة رأب الصّدع ولمّ الشمل بعد الانشقاقات التي عرفها الحزب وأدّت إلى إحداث شرخ في تمثيليته البرلمانيّة وفي تشتّت أصوات نوابه.
وفي كلّ الأحوال، فالرئيس الباجي قائد السبسي رغم “تنصّله”، في الظاهر، من مبادرة اقتراح “حكومة الوحدة الوطنيّة” إلاّ أنّ موقفه من ذلك يتجلّى بالكاشف خلال الحوار التلفزي الذي أجراه معه التلفزيون العمومي “الوطنيّة الأولى” حيث قال الرئيس السبسي إنّ “أداء الحكومة الحالية يبقى متوسطا”، وبالتالي فقد “حان وقت التغيير إلى ما هو أحسن وخلق بديل يتيح اتخاذ خطوات أكثر جرأة”، متحدثًا عن أن الوضع الاقتصادي والاجتماعي للبلاد أضحى يحتم هذا التغيير، كما ألمح إلى أن الصيد قد لا يكون رئيس حكومة الوحدة القادمة التي ستضع نصب عينيها أهدافًا اقتصاديّة”، هذا المنحى من الخطاب الذي يؤكّد دعم “السبسي” الكبير ومساندته لتغيير حكومة الحبيب الصيد.
أمّا بالنسبة لاختيار التوقيت فليس له تفسير موضوعي، والمسألة مرتبطة أساسا بمسار طرح المبادرة التي تؤكدها علاقة سببيّة مباشرة بالمؤشرات السلبيّة للوضع العام لا سيما على المستويين الاقتصادي والتنموي اضافة إلى عديد الإشكاليات منذ ذلك تأخير إتمام والمصادقة على مجلّة الاستثمار وعدم الاستجابة لوعود التشغيل ومسائل تتعلّق بالأمن وحقوق الانسان خاصة الفشل الأمني المتمثل بالخصوص في العمليّات الإرهابيّة غير المسبوقة، من حيث النوعيّة وحجم الضحايا، التي حصلت خلال فترة حكومة الصيد من أبرزها ما حدث بـ”باردو” و”سوسة” وتلك التي استهدفت حافلة الأمن الرئاسي بشارع محمّد الخامس، بالعاصمة تونس.
مــؤاخذات
لم تظهر عورات ولا تشكيكات ولا تعطيلات بالنسبة لحكومة “الحبيب الصّيد” طيلة ما يناهز السنة والنصف وتحديدا منذ 06 فيفري 2015 تاريخ انطلاق أعمالها وتسلمها رسميّا العهدة الأمر الذي جعلها تشتغل بأريحيّة وأعطي لها الضوء الأخضر لاتخاذ ما تراه من قرارات وتدابير تخصّ كلّ المجالات والقطاعات بلا استثناءات، حتّى أنّ اللقاءات الروتينيّة برئيس الدولة أو برؤساء وممثلي الائتلاف الحاكم كان سيرورتها مستقرّة بل أكثر من عاديّة.
ولكن في قراءة لبعض ما ورد في تصريحات عدد من وجوه الحكم والمعارضة فإنّ المؤاخذات على حكومة الصّيد تتخذ منحى آخر من قبل استراتيجيات العمل الحكومي وتشكيلة الحكومة في حدّ ذاتها وخاصّة اللغط المخفي في أوساط أهل الشأن حول “اضافة وزارة الوظيفة العمومية والحوكمة ومكافحة الفساد” وكذلك “وزارة الشؤون المحليّة” حيث يرى البعض أنهما من قبيل الجرعات الزائدة التي تهلك السقيم أو السويّ على حدّ سواء.
“فسّخ وعاود” فاتورة ثقيلة
حكومة الوحدة الوطنيّة المرتقبة سيستوجب تشكيلها فترة من الزمن ليست بالهينة ويمكن أن تتجاوز حدود الثلاثة أشهر إلى نصف العام إن لم تجر الرياح بما لم تشهيه السفن، وتتطلّب مفاوضات ماراطونيّة حول الشخصيّة المفترضة لرئيس الحكومة الجديد، ثمّ حتّى إذا اتفق المجتمعون المؤتمرون تنطلق بعدها رحلة البحث عن وزراء وربّما “كتّاب دولة” وكذلك المستشارين.
ويبدو أنّ حكومة “الوحدة الوطنيّة” سيكون أمام تكوينها تعقيدات كثيرة على اعتبار أنّ فتحها على كلّ أطياف المعارضة السياسيّة سيكون له وقعه خاصّة بالنسبة للتمثيليّة ونسبتها ومسألة توزيع وزارات السيادة، حيث ستسعى كلّ الأحزاب وفي مقدّمتها ذات الأغلبيّة البرلمانيّة إلى محاولة “افتكاك” أكبر قدر ممكن من الحقائب الوزاريّة أو اكتساح الوزارات والمنشآت والهياكل ذات التأثير القيادي سياسيّا واقتصاديّا وحتّى اجتماعيّا وثقافيّا.
حكومة إعــادة تموقع
يظهر من خلال المبادرة الرئاسيّة الجديدة أنّ الحكومة الحاليّة التي أرضت قطاعا هامّا نسبيّا من فئات الشعب التونسي المختلفة، لم ترض فئة من الطبقة السياسيّة وربّما داخل حركة النداء نفسها، فهناك من بدأ من الندائيين يخرج الخبء من ناحية عدم الرضاء على حكومة الصيّد منذ تشكيلها للوهلة الأولى، وهناك منهم من ذهب بعيدا إلى حدّ القول بأنّ “الحكومة الحاليّة” كانت سبب الشتات الذي صار إليه النّداء.
ويتجلّى من خلال المبادرة الرئاسيّة أيضا أنّ حكومة الوحدة الوطنيّة لا يراد بها تلك الوحدة في مفهومها الكلاسيكي المتوارث في الأفهام ولكن وحدة الصّف الندائي وعودة المنشقين بهذا الشكل أو ذاك وإرجاعهم إلى داخل السّرب الموزّع على موقعي السلطة والحكم في كلّ من “قرطاج” و”القصبة”، بحيث يتمّ فسح المجال لـ “توزير” عدد من الشقّ الندائي الثاني المنشقّ عن صفّ “نداء السبسي”، وذلك ضمانا لتكتلّ كمّي وكيفي ضاغط وأقوى يطيح بحركة النهضة التي لا تملك سوى وزير واحد في الحكومة، والانفتاح خاصّة على ما يسمّى بـ”المعارضة – الشبح” التي لا تمتلك تمثيليّة نيابيّة في البرلمان، ومن بينها بالخصوص حزب “التكتّل الديمقراطي من أجل العمل والحريات” وبعض الأحزاب التي لها تمثيليّة نسبيّة على غرار التيارات ذات الألوان الديمقراطيّة.
تجاوب المعارضة
في المجمل إذا تحدّثنا عن موقف المُعارضة من حكومة الوحدة الوطنية وشرطها لقبول المُشاركة يمكن الاستئناس برأي الوجه السياسي “سمير بالطّيب” (الأمين العام لحزب المسار الديمقراطي) المحسوب على المعارضة والذي ذكر، في تصريح له يوم الأربعاء 08 جوان 2016 أنّ المعارضة، والمُتمثّلة في “حركة الشّعب” و”الجبهة الشعبية” و”المسار الديمقراطي” و”الحزب الجمهوري” و”أحزاب الميثاق” تقبل بكلّ تأكيد المُشاركة في هذه الحكومة بشرط أن تتوفر جملة من الضوابط والشروط.
ويقول “سمير بالطيب” في رأيه الذي تدعمه أطياف واسعة من المعارضة أنّه “إذا تمّ الاتفاق على أولويات ومضامين المشروع الوطني للإنقاذ الذي ستُنتجه الحكومة الجديدة، خلال الحوار الوطني، ستقوم المُعارضة بتحمل مسؤولياتها وستقبل أن تكون صلب حكومة الوحدة الوطنيّة” ويبقى ضبط أولويات وبرامج واستحقاقات الحكومة القادمة، وتحديد طبيعة الحكومة والشخصية التي ستقودها هو المحدّد بدوره لموقف المعارضة التي ستجد نفسها في هذا الوضع مجبرة على القبول بمبدأ الأغلبيّة حتّى ولو كان مخالفا لرؤاها وبرامجها بالنظر إلى أنّ حكومة الوحدة الوطنيّة هي حكومة تغليب للمصلحة الوطنيّة والصّالح العام على المصالح أو القناعات الحزبيّة، لذلك من المتوقّع أن تتجاوز جلّ التشكيلات السياسيّة والحزبيّة المعارضة اختلافاتها الإيديولوجيّة وخلافاتها السياسيّة مع الأحزاب التي تمسك بزمام الحكم في البلاد.
فمن المتوقّع أن تكون المعارضة في حكومة الوحدة الوطنيّة داعم ومساهم إيجابي وأداة لامتصاص الأزمات والاحتقان لا العكس.
حلول اقتصاديّة واجتماعيّة
حرص الرئيس “الباجي قائد السبسي” على تشريك الطرفين الاجتماعيين، ممثلا في “الإتحاد العام التونسي للشغل” ونظيره الاقتصادي ممثلا في “الإتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليديّة”، مبدئيّا في المشاورات والأعمال لتشكيل الحكومة المرتقبة هو الدليل الكاشف لطبيعة المرحلة القادمة والمهمّة التي ستوكل إلى حكومة الوحدة الوطنيّة، وهي “مرحلة انتقال اجتماعي واقتصادي بامتياز”.
فالمراهنة كبيرة على التقارب بين ممثلي الشغالين من جهة والأعراف من جهة أخرى، وستظهر بوضوح أنّ مبادرة الرئيس ترتكز علي هذا “التقارب” في ضوء التدهور الاقتصادي وتراجع المبادلات التجاريّة واختلال الماليّة العموميّة وتفاقم نسبة الانهيار المسجّل في العملة التّونسيّة (الدينار) الذي يتجه نحو فقدان أكثر من ثلثي قيمته التي كان عليها قبل الثورة حيث كان يعادل الدولار الأمريكي لتنزل قيمته إلى أدنى من نصف دولار، ويحصل هذا في ظلّ مناخ محتقن بين الفاعلين الاقتصاديين ونظرائهم الفاعلين الاجتماعيين ممثلين في النقابات، حيث تمّ تسجيل تعطيل في المشاريع وتذبذب في الإنتاج وهجرة عديد المؤسسات والشركات ذات التشغيليّة العالية إلى بلدان أخرى ممّا زاد في تفاقم البطالة واضافة آلاف من العاطلين الجدد للمجتمع.
وربّما أراد رئيس الجمهوريّة أن يتحمّل الجميع مسؤوليّة فضّ الأزمة الاقتصادية وأن يقتسموا كذلك نتيجة التقهقر الاجتماعي الذي تشهده البلاد وحتّى تتضافر الجهود من أجل العثور على الحلول المفيدة والكفيلة بالخروج من نفق الاهتزازات التي تمرّ بها البلاد التي تتجه نحو إعلان الإفلاس التامّ للصناديق الاجتماعية بالتوازي مع تفاقم عجز الميزانيّة العامّة للدولة الذي تؤكّد التوقعات أن يبلغ، إذا تواصل الوضع على ما هو عليه، حدود ثلث الميزانيّة التي تقدّر اعتماداتها بـ 30 مليار دينار، وذلك إلى جانب اختلال الميزان التجاري وتفاقم الدين الخارجي الذي يفوق نسبة 53 بالمائة.
هذه الحكومة مهمتها ستكون أساسا مجابهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والتعجيل بفضل نسائل كبر عالقة كتلك التي تتعلّق بملف المصالحة مع رجال الأعمال الذي يحرص رئيس الجمهوريّة شخصيّا، وأكثر منه منظمة الأعراف، على تمريره والمصادقة عليه من قبل مجلس نواب الشعب، ويؤكّد عديد الخبراء أن العزوف عن الاستثمار والتعطل في المشاريع من أسبابه الرئيسيّة عدم فض هذا الاشكال اضافة الى مسائل الاجور والعمل
النقابي والمطالب الشغليّة المتواصلة وكثافة الإضرابات في قطاعات حيويّة وحسّاسة.
فرص النّجاح
تونس تمر بفترة تميزها الهشاشة في الوضع العام، والمبادرة المعلنة من قبل رئيس الدولة بإنشاء حكومة جديدة تأتي في وقت “المحكمة الدستورية” مازالت غير جاهزة بعد لمباشرة مهامها الدستورية، حيث يعهد الفصل في هذه الامور الى “هيئة مراقبة دستورية القوانين” علاوة على اعطاء رئيس الجمهوريّة صلاحيات دستورية واسعة على هذا الصعيد تخوّل له اتخاذ مثل هذه القرارات.
وبالنسبة لنجاح هذه الحكومة هو أمر شبه مؤكّد خاصّة بالنظر إلى إجماع أحزاب الائتلاف الحاكم وأغلب أحزاب المعارضة وكذلك الفاعلين الاجتماعيين والاقتصاديين على دعم مبادرة الرئيس بما يؤكّد النجاح المسبق لها لكن يظلّ الأمر رهين مسائل تتعلق باسم رئيس الحكومة والوزراء المنتظرين في الحكومة الجديدة.
الأسابيع المقبلة كفيلة بأن تبوح بأسرار المخفيات وتكشف سواتر الحجبات.