نفـحات رمـضانية : “فضائل التعاون في الشهر الفضيل”
لم يخبرنا التاريخ أن أمة من الأمم ساد التعاون والتآزر والتسامح بين أبنائها حكاما ومحكومين من ناحية، ومع جيرانها من الأمم الاخرى من ناحية ثانية، وكان حالها الانهيار والتمزّق، فلم يحدث ذلك بالطبع، كما لم تصمد أمم مهما علت ونهضت، حينما دب التمزق وعظم الاختلاف وتصاعد التشاحن وسادت البغضاء صفوفها، والطمع والعداء بينها وبين جوارها.
فالتعاون اكسير التقدّم وقاعدة الرقي وعماد القوة ودليل الرشد وآية الحكمة، لذا أمرنا الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز بالتعاون فقد قال تعالى في سورة المائدة «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ»، كما حثَّ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم على التَّعاون ودعا إليه، فقال «مَن كان معه فضل ظهر، فليعد به على مَن لا ظهر له، ومَن كان له فضلٌ مِن زاد فليعد به على مَن لا زاد له»، وشبَّه المؤمنين في اتَّحادهم وتعاونهم بالجسد الواحد، فقال «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسَّهر والحمَّى».
ووصف (صلى الله عليه وسلم) أثر التعاون على المؤمنين بالقول «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا». كما قال صلى الله عليه وسلم «يد الله مع الجماعة”، وإذا كانت هذه مرئيات ديننا الحنيف للتعاون، وهي أمر رباني لجميع الخَلْقِ للتعاون على البِرِّ والتقوى، بما يقود إلى رضا الناس ورضا الله جل في علاه وفي ذلك فوز عظيم. فكيف عبرنا عنها في الوقت الحاضر على صعيدي الافراد والمؤسسات بشقيها العام والخاص؟ هل تم تحويل ذلك الامر إلى واقع معاش مأسسة وتشريعا ومضمونا، بما يجعلنا نجني ثماره في الدنيا قبل الاخرة؟ وما موقفنا من مفاهيم ثقافة التعاون والتعليم التعاوني والاقتصاد التعاوني والتمويل التعاوني والشراكة الاقتصادية بين القطاعين العام والخاص؟
المجتمع المتعاون هو الذي يعين جميع أفراده، فالإنسان متعاون بطبعه حيث فطر على التعاون بل العجيب أن التعاون، كمبدأ وسلوك، هو سمة العلاقة بين مكونات الكون، وبين مخلوقاته من حيوانات ونباتات وبشر. والتعاون البشري يشمل جميع المجالات والانشطة الحياتية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والدين، سواء أكان تعاوناً مادياً أم معنوياً او الاثنين معا، وإذا تم التعاون مهما كان مجاله وفق المعايير والنظم الشرعية فإنه يحقق الكثير من المزايا والمنافع للأفراد وللمجتمع وللوطن ككلّ.
فالتعاون والتآزر هو السبيل إلى الفوز برضا اللّه تعالى ورضا الناس، وتحقيق النفع العام، وحصول كل فرد من أفراد المجتمع على ما يريد ويخطط، ويؤدي إلى تجويد العمل وتحسينه من خلال تبادل الخبرات والتجارب وتعظيم الاخلاص والتفاني في ادائه، فضلا عن تنظيم الوقت واختزال الجهد والزمن، كما انه يقود إلى التصدي للأخطار ودفع الأضرار والمفاسد التي قد تصيب المجتمع.
ويعد التعاون بين الافراد ومنظمات المجتمع المدني والحكومات والفعاليات الاقتصادية والسياسية المتعددة ركيزة اساسية في قضايا التحديث والتطوير والإصلاح ومواكبة متطلبات العصر ومواجهة تحدياته، لا بل أن أية قراءة متأنية للعوامل التي أدت إلى تطور وتقدم واستقرار الدول الصناعية في العصر الراهن والدول النامية الصاعدة التي لحقت بها، تشير إلى إن ذلك تم بفضل تعاون ثلاثي الابعاد بين الحكومة ومنظمات المجتمع المدني وقطاع الاعمال بشقيه الخاص والعام.
وعلى “الصعيد المؤسّسي” فإن التعاون بين العاملين من جانب وبينهم وبين الادارة من جانب اخر اساس النجاح والتميز والابتكار والابداع، ذلك التعاون القائم على الموازنة الدقيقة بين الحقوق والواجبات، ومصلحة الفرد ومصالح المجموع ومصالح المؤسسة، بما يقود إلى تحقيق الربح إلى الجميع فأنا أربح وزميلي يربح والمؤسسة تربح والمجتمع هو الرابح الاكبر، فالتعاون لا يمنع ولا ينفي الاختلاف في الرأي ولا يحط من قيم المنافسة والتسابق المشروع للفوز بأفضل مدركات الحياة، فتلك قوى محركة للتنمية المستدامة بأنساقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية.
لا بل ان ديننا الحنيف يدعونا إلى التنافس والتسابق في العبادات وحسن المعاملات للفوز بالجنة، مثلما يدعونا للتعاون والتآزر والوحدة، وقبل هذا خلقنا الله سبحانه وتعالى شعوبا وقبائلا متمايزة لنتعارف ونتعاون لنعمر الارض ونقيم الحضارة، فقال في سورة الحجرات «يَا أيَها الناسُ إنا خَلَقنَاكُم مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ».
فهل هناك ابلغ من الربط الرباني بين الامر بالتعاون واحترام قيم التنوع والاختلاف؟ هل تدرك القوى السياسية والمنابر الدينية أهمية ذلك؟ وهل سعت إلى عده المعيار الأول في نشاطها وقاعدة بناء المجتمع والحفاظ على وحدته واستقراره؟ نأمل ونتطلع إلى كل ذي بصيرة في وطننا الحبيب أن يتعظ بما حصل ويحصل في دولنا العربية والإسلاميّة حينما غاب التعاون وسيء فهم التنوع والاختلاف ونستثمر جميعا شهر الرحمة والبركة، شهر رمضان المبارك، لنقف ونراجع مسيرتنا ومسارنا ونمد ايدينا لبعضنا بعضا بقلوب مفعمة بالمحبة وعيون تتطلع إلى الخير والبركة في شهر كله خير وبركة.