نفحات رمضانيّة : لا اسراف ولا تقتير، الإعتدال ثمّ الإعتدال
رغب الإسلام في التوسط في الإنفاق بين الاستهلاك والاستثمار حيث قال الله تعالى: “والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما”، وهذا التوسط في الإنفاق الاستهلاكي على النفس وعلى المنافع مع تحريم الإسراف، ومنع الاكتناز، وأداء الزكاة المفروضة في المال والانتفاع بثروات المجتمع، كل ذلك يؤدي إلى توجيه الأموال إلى طرق الاستثمار المختلفة وزيادة الإنفاق الإنتاجي، وهناك مواسم لتنشيط حركة الاقتصاد يزيد معها الطلب الاستهلاكي على السلع في هذه المواسم، وقد تكون مرتبطة بعبادات مخصوصة مثل شهر رمضان، ومواعيد أداء الزكاة فيه.
ففي حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم “يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، شهر جعل الله صيامه فريضة، وقيام ليله تطوعا، من تطوع فيه بصلة من الخير كمن أدى فريضة فيما سواه، وهو شهر الصّبر، والصّبر ثوابه الجنة، وشهر المواساة، وشهر يزاد رزق المؤمن فيه، من فطر صائما كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء : قالوا يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر الصائم ، فقال (صلى الله عليه وسلم) “يعطي الله هذا الثواب من فطّر صائما على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن ، وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار”.
ولهذا فإن إقبال الناس على العبادة والطاعة وفعل الخير في شهر رمضان، هو المطلب الأساسي من الصيام، وليس هذا فقط في رمضان بل المؤمن يسعى طول حياته لذلك العمل الطيّب حتى تتحقق له السعادة في الدنيا والآخرة ويكسب رضا ربه فيدخل جنته وهو مطمئن قلبه.
وخلال هذا الشهر الكريم يزداد الطلب على السلع الغذائية والملابس، وغيرها مما يساعد توفرها على فعل الطاعات والصدقات تقربا لله تعالى، وكذلك موسم أداء الزكاة على مختلف أصنافها، ومن ذلك زكاة الفطر التي تخرج في شكل نقدي مالي أو “عيني” يتمثّل في مأكول من مأكولات البلد نفسه بما يسد حاجة الفقير والمسكين في أيام العيد، كل ذلك يزيد من الطلب على السلع فيهب الناس للشراء وتتحرك التجارة في البلد حيث يتم توفير السلع التي يحتاجها الناس.
ومن تنظيم الإسلام للاستهلاك يتم الربط بين الاستهلاك وظروف المجتمع، حيث أن توفير الاحتياجات الأساسية للفرد والمجتمع من سلع ضرورية وحاجيات أساسية وكماليات يكون بتعاون أفراد المجتمع على أداء الحقوق التي تجب عليهم لذويهم ممن يعولون أولا، ثم لأقاربهم، ثم لجيرانهم.
كما وضع الإسلام قيودا على الاستهلاك فنهى عن استهلاك بعض السلع الضارة أو التي تلحق ضررا بالعقل أو الجسم أو الأسرة أو المجتمع، ومن ذلك تحريم شرب الخمر وكل مسكر أزال العقل، والميسر وما ذبح لغير الله، ولحم الميتة والدم ولحم الخنزير وغيرها مما ثبت ضرره على صحة الإنسان، فقد قال تعالى “يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون”.
وقال ربنا عزّ وجلّ أيضا في “سورة الأعراف” مبيّنا أنواعا أخرى من السلع المحرم على الناس أكلها “حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق”، والإسلام يبين أن التحريم والإباحة لا يرجع إلى الفرد أو المجتمع، بل هو أمر إلهي غير قابل للتبديل.
فالإسلام يعتمد في تنظيمه للاستهلاك على عقيدة المسلم والتزامه بهدي القرآن والسنة النبوية والنهي عن كل ما فيه إسراف وتبذير، ويظهر أثر تلك التنظيمات الإسلامية في ترشيد الاستهلاك والحد من التنوع والتطور المستمر في الحاجات الاستهلاكية للإنسان دونما ضرورة اقتصادية أو اجتماعية من خلال تأثيرها على سلوك المستهلك في المجتمع الإسلامي.
وفي عصرنا الحاضر برزت بعض العادات الاستهلاكية غير المحببة للنفس المؤمنة بربها إيمانا حقيقيا، من ذلك زيادة الطلب على المواد الغذائية بشكل مفرط يصل في الغالب لدى كثير من الناس إلى حد التبذير فيهرعون إلى الأسواق ويحدثون ازدحاما كبيرا في نهاية شهر شعبان وأول شهر رمضان فيطلبون أضعاف ما كانوا يطلبونه في بقية أشهر السنة من المواد الغذائية، وكأنما شهر رمضان عندهم هو أكل فقط حيث تزين الموائد الرمضانية بألوان شتّى من الأطعمة والمشروبات، وتستنفر جهود أهل البيت بكل طاقتهم وتضيع الأوقات الطويلة في إعداد الوجبات المتنوعة، وتجهيز الموائد والطاولات، مختلفة الأحجام، بما تفضل الله عليهم به من النعم والخيرات، ويا ليتها تؤكل عندما توضع، ولكنها تعود أدراجها ولم ينتقص منها شيء كثير سوى من أطرافها والحقيقة أن الصائم قليل من الزاد يكفيه ، وهم يدركون أن القليل يكفي إلا أن الواقع غير ذلك فإسراف وتبذير ما أنزل الله به من سلطان.
إننا محاسبون لا محالة على التبذير والإسراف، ومسؤولون عن كل لقمة ترمى في القمامة، والتي تعجز عن حملها في كل مساء وصباح جرّارات البلدية وحتّى ناقلاتها العملاقة، كلّ يوم أو أمسية في رمضان يقف عمال النظافة، والحيرة آخذة منهم كلّ مأخذ، مما يرون من نعم الله التي ترمى، والتي كان الأجدى أن يسرّ بها الفقراء والمساكين أو أن توفّر قيمتها ووضعها لإنجاز مشروع يمتص بطالة الشباب المتفاقمة، أو الإعانة على فعل الخير والإنفاق في كلّ وجوهه.
نحن مدعوون في هذا الشهر الفضيل للتقليل من استهلاكنا والحفاظ على ثرواتنا ومواردنا، مدعوون لنتبع هدي رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في حياتنا وسلوكنا، فابن آدم حسبه من الدّنيا لقيمات يقيم بها صلبه ويحقق العبادة لربه، أمّا التنعّم بالطيبات فقد أذن الله فيها للمسلم ولكن دون إسراف أو ترف وبلا تقتير أو تضييق عن النفس، الاعتدال فالاعتدال.