الشّباب خارج المعادلة
ربّما وجد نظام المخلوع الصواب، وإن بطريقة نسبية، عندما تبنّى نظامه شعار “الشّباب هو الحلّ”، فقد صحّت تلك النبوءة وتجسّد الشّعار الذي طالما رفعه حول الشباب، فالبوعزيزي ذاك الشّاب الذي يقتات من وراء دفعه وجرّه لعربة الخضار والغلال وهو يجوب بها يوميّا شوارع وساحات وأزقّة مدينته أملا في الاسترزاق الحلال من عرق جبينه، كان الحلّ الحقيقي للخلاص والخروج بالبلاد إلى فضاء أرحب وأنقى يستنشق فيه الجميع عبق الحريّة والديمقراطيّة والانفتاح والأمل في مستقبل واعد وغد مشرق.
بالأمس القريب، قبل ثورة الثّائرين، فسح المجال لفئة من الشّباب، للعمل والبذل والاندماج في وظائف كثيرة، وفي أحيان عديدة وظائف عليا وحيويّة وحسّاسة نسبيّا، تمنح بمنطق الواقع إلى ذوي الخبرة والدّراية ممّن راكموا سنوات طويلة في العمل، وممن لهم “باع وذراع” كما أنّ شريحة شبابيّة معتبرة تمكّنت، بعد أن وجدت التشجيع والفرصة السّانحة، من فرض نفسها وإبراز قدراتها وانكشف بجلاء أنّ تونس تحتكم في كلّ الميادين على طاقات شابّة لها من الأهليّة والكفاءة والقدرة على الفعل والإنجاز والإتقان وتحقيق الإضافة.
وإذا كان الواحد منّا لا يمكنه من حيث الوازع الوطني أو الأخلاقي أن يمجّد نظاما آفلا رفضه الشّعب وعانى منه الأمرين، وإذا كنّا أفراد أو جماعات ننتصر لوطننا ونصطف لخدمته وإعلاء مصلحته فإنّ كلمة الحقّ لا بدّ أن تقال، والحقّ أنّ النظام السّابق أعطى هامشا من حريّة المشاركة في الشأن العامّ للفئات الشّابة في عديد المجالات وترك الباب أمامها مفتوحا وأحيانا أخرى ولكن دون أن يغلق تماما، وقتها اندمج الشباب، وإن كان إدماجه فيه سياسيّة دعائيّة وشكليّة بروتوكوليّة، وقتها أتيح لبعض هؤلاء الشباب أن يدلوا بدلوهم ويقولوا كلمتهم وذلك من خلال حضورهم أشغال المجالس وفعاليّات الاجتماعات وأيضا تشريكهم في الاستشارات واستطلاعات الرأي التي كانت تنجز بين وقت وحين.
الشباب الذين كانوا وقودا للثورة، والذين بذلوا أرواحهم ودماءهم من أجل تونس حرّة ومتقدّمة يشاع فيها العدل وتصان فيها حقوق الإنسان وتجسّم على أرضها قيم العدالة الاجتماعية، هؤلاء الشباب الذين سقطوا بين شهيد ومصاب في ثورة الحريّة والكرامة لم تتحقّق آمالهم وتطلّعاتهم هم حاليّا مركونون على الطوارئ ومتروكون على قارعة المشهد، بل أكثر من ذلك فقد تنامت في صفوفهم البطالة وتفاقم الغلوّ والتطرّف وازداد إحباطهم من المستقبل الذي يرونه مفتوحا على المجهول.
ولا داعي لإنجاز دراسات عميقة ولا تنظيم استشارات موسّعة ولا حتّى إجراء استطلاعات رأي “مناسباتيّة” للاطلاع على مستوى تشريك الشباب في القيادة والإدارة، فقط رصد بسيط لواقع المسؤوليّات والمناصب العليا في مؤسّسات الدّولة ومراكز قرارها وأيضا في المواقع القياديّة للأحزاب السيّاسيّة، يكشف بوضوح “الغياب شبه الكلّي” للعنصر الشبابي، فضلا عن كون الشباب من سنّ العشرين إلى حدود أوائل الأربعينات هم من غير موفوري الحظّ لنيل مناصب في رئاستي الجمهوريّة أو الحكومة أو مجلس نواب الشّعب، وهو ما يناقض المشهد السياسي والحكومي والبرلماني والحزبي في الدول المتقدّمة سواء كانت أوروبّا أو الولايات المتحدة الأمريكيّة أو كندا أو استراليا أو اليابان التي تعدّها بلادنا نماذج تحتذى وتسعى للحاق بركبها.
بلادنا لديها من الطّاقات الشابّة المتشبعة بروح الوطنيّة والعمل التي يمكن التّعويل عليها في تحمّل المسؤوليّات وفي إنجاز المهمّات الصّعبة وفي القيام بالأعمال الدّقيقة، فمطلوب في الظّرف الراهن تطعيم مواقع المسؤوليّة ومراكز الإدارة والتخطيط والاستشراف بالكفاءات الشبابيّة والاستئناس بآراء أصحابها وأفكارهم ومقترحاتهم التي أثبتت في الغالب رجاحتها وجدواها وصوابها، وباعتبار قدرة زخم كبير من شبابنا على البذل والتضحية وتقدير قيمة العمل وإعلاء المصلحة العامّة.
أمّا ما يمكن استبعاده واستهجانه، هو تلك النماذج التي خلّفها بعض الشباب الذين قدّر وأن منحوا الفرصة كاملة وتمّ تعيينهم في مناصب عليا في الدولة فقدّموا صورة سيئة على من هم في أعمارهم من خلال قيامهم بشطحات وخروج عن الموضوع، فمثل هؤلاء نزر قليل ونشاز لا يحسب على عموم الشباب التونسي، فالشاذّ يحفظ ولا يقاس عليه.
أصحاب القرار وأهل الشأن يعلمون جميعهم أنّ “الشباب هو الحلّ”، وأنّه العلاج الشّافي وحصننا الحصين وسبيل نجاحنا في بناء تونس، دولة مدنيّة متقدّمة.. “بنت وقتها” كما يوصف، ولكن في ظلّ الواقع الراهن كذلك.