المؤتمر العاشر للنّهضة “محبّة تونس موش كلام”
من غير الضروري السير في ركاب بعض من نذر نفسه للتحليل الإعلامي في منحاه السياسي كون خطاب الشيخ راشد الغنّوشي، رئيس حركة النهضة خلال مؤتمرها العاشر المنعقد عشيّة اليوم الجمعة 20 ماي 2016 بالعاصمة، “إمّا أن يكون أبيضا صاحبه موال وإمّا أسود صاحبه لوّام”، بل من الضروري أن نحافظ على الموضوعيّة ونركن إلى الحياديّة، فالصحفي، هو مثل القاضي في المحكمة لا هو مع هذا ولا هو مع ذاك، وخلاصة الخطاب أنّ ما جاء فيه متوقّع وضجّ بالعموميّات والتنظير، وحاول فيه محرّروه أن يأتي على كلّ المشهد، وتكلّم الشيخ بروح الوطن لكن الخطاب لم يكن بنفس الروح.
وليس ثمّة عاقل ينفي عن النهضة وزنها الذي ما انفكّ يتثاقل وقاعدتها التي ما فتئت تتوسّع، وليس من حاجة إلى الإعلان أنّ من هم خارج القاعة أكثر بكثير من داخلها، فذاك يعطي انطباعا عكسيّا وأحيانا سلبيّا لدى الرأي العامّ لا سيما المتعاطفون مع “الحركة” الذين يعدّون بمئات الآلاف، والذين اقترعوا لفائدة النهضة وصوتوا لها رغم عدم وجود علاقة لهم بالفكر النهضوي، أو بالحركة كتيّار سياسي، فقط رابط “العقيدة” و”الإيديولوجيا” والهوية” التي يرون أنّ حمايتها سبيله في الظرف الراهن وجود الحركة في معترك الساحة السياسة وفي فلك السلطة.
خطاب الشيخ الغنّوشي وإن بدا فيه من العقل والرصانة والدعوة إلى “الوحدة الوطنيّة” قال كثير منه “زين العابدين بن علي”، وردّد منه رؤساء حكومات تواتروا ويقوله من يقوله من قادة الأحزاب الحاكمة وغير الحاكمة، لكن فقط تدوم لتلك اللحظات التي تلتهب فيها الأكفّ بالتصفيق ثمّ سرعان ما تمسك كلّ يد أختها ليعود الشعب إلى ما كان يرزح فيه من بطالة وعوز اجتماعي قاهر، ولتستأنف البلاد رحلتها المنكوبة تتقاذفها أمواج طوفانيه بين اقتصاد عاجز وميزانيّة متهالكة، ومديونيّة غارقة في أدنى الغياهب.
مؤتمر حركة النهضة العاشر يدفعني إلى استحضار وقت ما من فترة حكم “التّرويكا” حيث جادت قريحة قيادات “النّهضة” بشعار استمرّ ذكره لمدة لا بأس بها مفاده “محبة تونس موش كلام”، شعار مضمونه كان محلّ استحسان بعض العائلات السياسية والحزبية، حيث أطلق عليه البعض تسمية “الابتكار النهضوي” وقرنوه بمقترح رئيس الحكومة الأسبق حمّادي الجبالي المتمثّل في مبادرة “التكنوقراط” ، وكأنّنا بـ “حركة النهضة” حينذاك تعترف، وهي بصدد الخروج من “القصبة وما جاورها”، بأنّ “محبّة تونس مازالت كلام في كلام” سواء من جانبها أو من قبل الأطياف والتّشكيلات المؤثّثة للمشهد العامّ.
التونسيّون، وهم يعايشون تقلّبات المشهد السياسي بشطحاته المفاجئة، صاروا، أكثر من أيّ وقت مضى، ينشدون طينة جديدة من السّياسيين من أولئك الذين يعلون مصلحة الوطن ويغلّبون خدمة الصّالح العامّ على غاياتهم ومصالحهم الضيّقة، ينشدون “شخصيّات نظيفة” تكون في مستوى الثّقة الممنوحة لهم، يوفون بالوعود ويلتزمون بالتّعهّدات وتكون قلوبهم وجلة خوفا على تونس ويؤثرون حبّها على أنفسهم وأهاليهم، فالتّونسيّون سئموا من “الذين يسمعونهم من الكلام حلاوة ثمّ يروغون كما تروغ الثّعالب”.
“محبّة تونس…موش كلام” هو من صميم المرحلة التي تمضي فيها تونس في تركيز دعائم البناء الديمقراطي للجمهوريّة الثانيّة، وهو ما تفرضه مقتضيات الظّرف الأمني الدّقيق للبلاد التي تخوض حربا ضروسا ومتواصلة على الإرهاب، وفي ظلّ واقع اقتصادي يتّسم بالصّعوبة، “محبّة تونس.. موش كلام” من أوكد متطلّبات العمل السياسي ومن أساسيّات الحكومي خاصّة خلال السنوات الخمس المرتقبة، وتحديدا في إطار تنفيذ المخطّط التنموي الخماسي (2016 – 2020).
التونسيّون يرون أنّ “محبّة تونس” الحقيقيّة تستوجب القطع مع العمل وفق أسلوب “اكتب على الحوت..” أو الاتّكال على منهج الحشد “التّعبوي” و”الدعائي” باعتبار أنّ العقود الخوالي أضنتهم وكانوا يتلظّون مكتوين بنار تناقضات الخطاب السّياسي “الرّخيم” والواقع المجتمعي الأليم، لذلك فهم يتعاملون مع كلّ السّياسيين على اختلاف ألوانهم بعقليّة ومنطق “ما نصدّق إلاّ ما نعنّق”.
اليوم حبّ تونس الحقيقي ليس في “الهالة والهيلولة” وبهرج اللاّفتات الإشهاريّة المعلّقة على واجهات البنايات الفخمة الضّخمة للأحزاب السياسيّة وليس أيضا في “الزيطة والزمبليطة” احتفالا بهذه المناسبة أو تلك أو احتفاء بقدوم فلتان أو علاّن.
“محبّة تونس” تفترض التنافس في إعداد برامج ومخطّطات تنمويّة مجدية وبلورة استراتيجيّات اقتصاديّة طموحة وتكريس منظومة مجتمعيّة تقوم على أساس العدل والعدالة الاجتماعية وتكافئ الفرص في التّشغيل وفتح باب الإنتدابات في القطاعين العمومي والخاصّ أمام كلّ الشرائح والفئات مع السعي، قدر الإمكان، إلى تقليص الفجوة بين الطّبقات ورأب التّفاوت الجهوي من خلال التّوزيع العادل للثروة الوطنيّة والعمل على فسح المجال أمام جميع الطاقات والكفاءات من داخل الوطن وخارجه، دون تمييز أو إقصاء، وتذليل كلّ العقبات التي تسهّل عليهم تركيز مشاريعهم واستثماراتهم فضلا على ضرورة تشجيع المبادرة الخاصّة.
وعلينا أن نقول بصراحة أنّ “محبّة تونس” تقال وترفع شعارات في الوقت الذي تغرق فيه شوارعنا في شربة ماء، فبعد دقائق معدودة من نزول الغيث يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود ويعلق المترجّلون والرّاكبون في قلب العاصمة، “محبّة تونس ” لا يمكن أن تتجسّد في الواقع الملموس إلاّ إذا عمل سياسيّونا بحرص واجتهدوا وسهروا وباعوا النّوم الغالي وابتعدوا عن التأدلج ونأوا بأنفسهم عن الانحسار في دائرة التحزّب الضيّقة، ستصبح “محبّة تونس” حقيقة محسوسة عندما يتخلّص سياسيّونا من عنتهم وعنادهم وشطحاتهم ويقطعوا مع عقلية “من لا يشاركني رأيي فهو عدوّي”، هذه العقليّة التي انكشف بورها وانجلى عقمها ولم تجلب علينا غير الوبال والمشاكل والأزمات، أو كما يقول اللّسان التونسي الدّارج “دخّلت البلاد في حيط”.
“محبّة تونس.. موش كلام” سيكون “ولدو وقتو” إذا كبحت جياد الحسابات ولجّمت أحصنة المصالح وإذا اصطفّ الجميع جنودا، تحت راية الوطن، متأهبين لخدمة تونس وشعبها.. “محـــبّة تونس.. موش كلام”: بين التّنظير والتّطبيق فمّــة كلام.