المرسومان 115 و116 هل يكفيان لتنظيم إعلام دولة
لخبطة مازال يحدثها الفراغ الواضح في النصّ المنظّم لقطاع الإعلام في الدولة التّونسيّة (صحافة واتصال) خاصّة بعد الثورة وإلغاء العمل بـ “مجلّة الصحافة”، وكذلك حلّ كلّ من “وزارة الاتصال” و”وكالة الاتصال الخارجي”، هذه اللخبطة وعدم وضوح الرؤية طالت سلبياتها أغلب العاملين في قطاعي الصحافة والاتصال من الذين يعملون في القطاع وفق شهائد في الاختصاص أو أخرى معترف بها وكذلك من المنتمين لمؤسساتهم الإعلاميّة بالصيغة القانونيّة، سواء بالترسيم أو عبر العقود بأشكالها المختلفة، ونستثني هنا الدّخلاء أو المعينين حزبيّا أو سياسيّا أو من أصحاب العلاقات بصاحب هذه المؤسسة الإعلاميّة العمومية أو تلك الخاصّة.
اليوم يطالب مسؤولون نقابيّون في مجال الصحافة الدولة بأجهزتها وهياكلها المختلفة من أجل التدخّل قصد وضع حدّ للتلاعب بمصير مئات الصحفيين وقع العسف عليهم والتعسّف تجاههم وطردهم بشكل مهين، الأمر الذي جعل الأمور تختلط وتسير نحو التناقض، باعتبار أنّه في وقت يطلب فيه من الدولة الابتعاد عن حيثيّات وحوادث هذه “الصّحافة” وترك المسائل والقضايا لأهلها للنظر فيها وحسمها دون تدخّل، فإنّه يطلب من “هذه الدولة” أن تتدخّل وتعين وتقاضي وترافع وتدافع عن أهل الصّحافة الذين هم اليوم بين فكيّ كمّاشة “الانتهازيين الدخلاء” وأصحاب “مؤسسات تجاريّة قبل أن تكون إعلاميّة”، كون هؤلاء هم في نهاية المطاف “تجّار” من غير أهل الاختصاص وغير قابلين للامتثال لأخلاقيات المهنة.
والواضح بجلاء أنّ الجعجعة التي افتعلتها بعض الأطراف لتحييد دور الدولة واستبعادها عن أيّة مشاركة تخصّ الصحافة، لم تغن الصحفيين الممتهنين والمطرودين ظلما وبهتانا، لم تغن عنهم ما يتخبّطون فيه من عوز مادّي وحاجة اجتماعية، كما لم تحلّ مشكلاتهم تجاه من دخلوا سوق الصحافة بأموالهم وحوّلوا هذه المهنة الوطنيّة النبيلة إلى مضاربات مالية ومصلحية وتجاريّة، وذلك بعد أن عبّد لهم، من عبّد، الطريق حتّى إذا وجدوها سالكة، ها هم يفعلون ما يرغبون ويشتهون، والضحيّة “صحفي” مع تأجيل التحفّظ على الصفة.
اليوم فئة واسعة من الصحفيين، ولا يختلف معهم زملاؤهم الإتّصاليّون، وهم “الصحفيّون العاملون بمؤسسات الدولة الرسميّة، لا يختلف جميعهم على أنّ ما يعرف صلب القطاع بـ”المرسومين 115 و116″، إنّما هما لا يفيدان الصحفيين والإتصاليين في شيء وإنّما استفاد منهما من استفاد دون أهل المهنة، وتتفق الفئة الواسعة من الصحفيين أنّ هذين المرسومين “قدّا على القياس” و”مفرغان من المحتوى”، ويذهب آخرون إلى القول بأنّهما “دبّرا بليل” وتمّت صياغتهما في غفلة من الصحفيين والإتّصاليين الذين لم يشاركوا في صياغتهما، على الأقلّ من باب الاستشارة.
الخطير أنّ الدولة أذعنت لمن أذعنت وتخلّت عن دورها لهذه المنظمة بضغط من هذه الأطراف التي تدعي أنّ حضور الدولة في مسألة الإعلام يعني الرجوع إلى “تسلّط عبد الوهاب عبد الله”، وهي الفزّاعة واللاّهاية التي اتخذتها الأطراف نفسها لتدجين الصحفيين من أجل قضاء مصلحة قلّة قليلة من المنتسبين دفعا وإرغاما لمهنة الصحافة، والذين قلّدوهم، بهذه الطريقة أو تلك، مناصب تتيح لهم التحدّث باسم الصحفيين ولكن دون أن يحملوا همومهم أو يفضّوا مشاكلهم.
كما تضرّر الصحفيّون المشتغلون في مختلف المواقع والمؤسسات بالقطاعين العمومي ولخاصّ، كان الضرر أكبر بالصحفيين العاملين بمؤسسات الدولة وإداراتهم العموميّة، والذيم بدهاء خبيث تمّ استثناؤهم حتّى من هوياتهم الصحفيّة، وصنفوهم دون اختيار أو إرادة منهم بوق الأنظمة المتواترة والصّادح بألوان الحكومات المتعاقبة، وهو تجنّ حقيقي لهذا “الصنف من الصحفيين”، الذين يستحيل أن يتخلّوا عن هوياتهم الصحفيّة ويستحيل أن يحملوا لون هذا أو يعتنقوا سياسة ذاك، وإن كان ولا بدّ فخارج المؤسسة الرسميّة كون ذلك حقّ دستور مكفول للأشخاص الطبيعيين والمتمتعين بحقوقهم المدنيّة، أمّا في ما عدى ذلك فمن يكون غير ذلك فليس بـ “صحفي”.
في الظرف الراهن وفي وقت يتظاهر فيه صحفيّون، والشمس الحارقة تأكل رؤوسهم، أمام هذه الفضائية أو تلك الإذاعة أو تينك الصحيفة بعد أن وقع إعفاؤهم عن العمل أو طردهم بسبب أو دونه، وفي وقت يصرخ فيه هؤلاء الصحفيين المساكين جراء الظلم والقهر الذي لحقهم ومن أجل إرجاعهم إلى سالف شغلهم ، في هذا الوقت غاب وخرس أصحاب الجعجعة ومثيريها وعجزوا عن فضّ ما حلّ بهؤلاء الزملاء وجروا إلى الدولة التي أغلقوا بينها وبين الصحفيين وفتحوه هم معهم لمصالحهم وغاياتهم الخاصة، جروا إليها طامعين في حل الإشكال لكن أيضا طمع في تقارب فيه مآرب لهم.
من المنطقي والضروري مراجعة ما رسم للصحفيين من سياسة وأطر لا تعنيهم ولم يستشاروا فيها ولم تنل قبولهم، وضروري إنشاء هياكل وطنية تشرف على قطاعي “الصحافة” والاتصال” وتشارك فيها جميع الأطراف المهنية والممثليات النقابية وتكون فيها الدولة طرفا رسميا على اعتبار أنها المشغل الأول والأكبر للصحفيين في البلاد، اليوم ضروري التعجيل بصياغة “ميثاق وطني للصحافة” و”ميثاق وطني للاتصال” ينظم كلاهما هذا القطاع أو ذاك.
المرسومان 115 و116 تجاوزتهما الأحداث ولم يعودا صالحين.. هذه حقيقة وواقع أيضا.