“سايكس بيكو” الجديدة “داعش” و أخواتها من أدواتها
كان العالم البشري مستقرّا نوعا ما وأكثر هدوء رغم بعض الهزّات والرجّات، الأمر الذي لم يكن ليعجب بعض قوى الشرّ في العالم التي اختارت استعمار بلدان ذات سيادة بقوّة الحديد والنّار وتدجين شعوبها وذبح من يرفع الصوت منهم مطالبا باسترجاع الوطن المغتصب لذلك خطّط المخطّطون ونفّذ المنفّذون وقتلوا وليّ العهد النّمساوي فاندلعت الحرب العالميّة الأولى فالثانية وتحلّق شقّ من قادة الغرب المنتصرين حول طاولة المؤامرة الإنسانيّة الكبرى، حيث تمخّضت عن المجتمعين اتفاقيّة “سايكس بيكو” الخبيثة اللّعينة التي فتحت الأبواب لاحتلال الشعوب وخاصّة الأقطار العربيّة والإسلاميّة.
وعملت القوى الاستعمارية خلال أحقاب الاستعمار المقيت على تقسيم شعوبها وتفتيتها إلى أجزاء وتشتيتها إلى شعوب أصغر حجما وأقلّ شأنا وأضعف قوّة وأوهن شكيمة، وأكثر فعل مشين وعار سيظلّ عالقا بتاريخ البشر على وجه البسيطة استباحة أرض فلسطين وتقديمها هديّة للصهاينة ولقمة سائغة لهم بعد أنّ هيّأ ما أطلق على نفسه في تلك الفترة بـ “الانتداب البريطاني” الأرضية المواتية لتكون الغلبة للإسرائيليين على شعب فلسطين آنذاك وكلّ الشعوب المحيطة التي حسب لها ألف حساب وحساب لصدّ تدخّلها لمساندة أهل فلسطين، فخلقت “سودانيين” نسبة إلى دولة السودان في الشمال والثّانية في الجنوب ، وهند عظمى مقسّمة إلى 3 بلدان هند أصغر حجما ووزنا وتأثيرا وباكستان وبنقلاديش، و عراق وصومال ويمن متقطّعة إلى أجزاء، وفي باقي البلدان زرعت الفتنة وتركت نيران الصّراعات بين أبناء القطر الواحد ولنا أن ننظر إلى المغرب الأقصى وجبهة “البوليزاريو” وفي الجزائر “القبائل” وفي موريتانيا “الطّوارق”، جماعة “سايكس بيكو” الأولى خلّفوا عالما عربيّا مهدودا غير ناضج تنميته ناقصة وشعوبه بعيدة عن كلّ نضج وتحضّر وتمدّن.
في هذه الظرفيّة استنبط المستعمرون القدامى وحلفاؤهم مخطّطات جهنميّة عديدة ومتنوّعة للرجوع للدوس على مستعمراتهم السّابقة غير أنّ محاولاتهم باءت بالفشل وذهبت استنباطاتهم في مهبّ الرّيح بعد أن اصطدمت بفطنة شعوب تلكم المستعمرات ويقظتهم والنضج الذي بلغوه وخاصّة الرّوح الوطنيّة العالية التي تختلج في قلوب الشباب والكهول والنساء والأطفال وحتّى الشيوخ ورفضهم مجرّد سماع صفة أو نعت يتعلّق بذرّة تدخّل محتملة، فشقّ على القوى الاستعمارية ما بلغته شعوب مستعمراتها القديمة من مستوى عال تعليميّا وأكاديميّا وثقافيّا ووعيا بالواقع والتحديّات والأحداث ومستجدّاتها، وهو الشيء الذي أهمّها وأغمّها.
لكن سرعان ما وجد “شياطين الإنس” من هؤلاء الاستعماريين أفكار ا وخططا أكثر خبثا ودهاء فلجأوا سريعا إلى اتفاقيّة “سايكس بيكو” الثّانية المعروفة بمشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي ابتكره الدّاهية العسكري الأمريكي المتقاعد برتبة “مقدّم” رالف بيتر والذي ينظّر فيه إلى تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى دويلات إثنية ودينية مختلفة، حتى يسهل التحكم فيه، وفي إطار هذا التقسيم تصبح الدولة الصهيونية الاستيطانية، المغروسة غرسا في الجسد العربي، دولة طبيعية بل وقائدة، فالتقسيم هو في واقع الأمر عملية تطبيع للدولة الصهيونية التي تعاني من شذوذها البنيوي، باعتبارها جسداً غريباً غرس غرساً بالمنطقة العربية.
وقد انطلق تنفيذ الاتفاقية برسم خارطة طريق وضعها الحاكم الأمريكي “بول بريمر” الذي نصب لحكم العراق بعد تدمير سلاحه وبنيته التحتيّة والقضاء على أركان مؤسّسته العسكريّة التي كان يحسب لها ألف حساب وحساب في المنطقة والتي خاضت سنوات طويلة من الحرب ضدّ إيران الدولة الإقليميّة القويّة التي لها وزنها العسكري ويهابها الصغار والكبار في العالم والعراق اليوم “كنتونات” مجزّأة بين الأكراد والشيعة والسنّة والمسيحيين واليزيديين والتركمان، اقوام وقبائل شتّى.
إثر ذلك وجّهت البوصلة إلى السّودان فقسّمت رسميّا إلى دولتين، الأولى مهدّدة وغير مستقرّة والثانية ضعيفة وليست لها مقوّمات الدولة الحقيقيّة، إثر ذلك قسّم اليمن “السعيد” إلى “يمنين” وتمّ تسليح الحوثيين ضدّ النظام القائم وأدخلت البلاد في أتون صراع مرير سقط معه نظام علي عبد الله صالح وجيء بنظام هشّ وضعوا على قيادته رئيس بلا صلاحيّات ويسمع الكلام ويصغي للإملاءات وينفّذها دون تحفّظات والقصد الرئيس “عبد ربّه منصور” واليوم اليمن بلا سلطة بعد أن افتكّها الحوثيّون.
اليوم أمسى اليمنيّون حزانى على اليمن الذي كان يضرب به الأمثال والذي كان بالأمس سعيدا ولم يعد كذلك، والسيناريوهات المحبوكة بإحكام لتكريس فكرة مشروع “الشرق الأوسط الجديد” بدويلاته العربيّة المفتّتة إلى أعراق وأقوام وقبائل وإمارات وممالك جدّ صغيرة أريد لها ان تكون متشرذمة ومتصارعة صراعا أبديّا يقوم على العرقيّات والجهويّات والطائفيّة ولنا في الحرب الدّائرة في سوريا الدّليل والمثال والشأن نفسه للبنان الجريحة التي يعيش شعبها منذ عقود خلت على التناحر والتفجيرات والصّراع الطائفي الذي أودى بحياة آلاف القتلى والمصابين من أبناء البلد الواحد، وليس الصّومال ولا جيبوتي ببعيد عمّا يحدث في الأٌقطار العربيّة التي أدخلت قهرا وكرها وعمدا إلى أتون الفوضى والقتل والتدمير والخراب.
واليوم ها هي الجارة الشقيقة ليبيا المتاخمة لحدودنا التونسيّة أصبحت وبقدرة قادر و”بلا استئذان” معقلا للدواعش ومسرحا لجرائمهم الشنيعة ضدّ الإنسانيّة، ها هي ليبيا دولة الكفاح والنضال ضدّ الاستعمار وبلد الأحرار والوطنيين وفي طليعتهم الشيخ المجاهد عمر المختار تئنّ تحت ارهاب “داعش” الفاحشة، ليبيا إلى حدّ اللحظة لم تستسغ من أين لهذه الجماعة بتلك القوّة وذاك العتاد المتطوّر وتلك البزّات العسكريّة المصنوعة بإتقان ومن أعلى طراز وأسلحة وسكاكين وسيوف من ماركات لا يمكن توفّرها لا في الأسواق اللّيبيّة ولا في الأسواق العربيّة والإسلاميّة برمّتها، لقد بدأ التقدّم يأخذ مجراه في تنفيذ مخطّطات المشروع الصهيوني لتفتيت العرب والمسلمين وإتمام هذا الفعل بأيدي العرب أنفسهم.
ولعلّ “داعش” الحركة التي بتت تحتكم على تشكيلات عسكريّة ولوجستيّة لم تبلغها جيوش عدّة دول عربيّة لها تاريخها ويعرف وزن قوّتها وهو ما يكشف حجم الحشد الصهيوني والأجنبي من أجل تنفيذ “اتفاقيّة سايكس بيكو” الجديدة بحذافيرها ويؤكّد أن الأطراف التي تقف وراء بروز “داعش” ودعم الدواعش بالمال وبفسح المجال مصرّون على إرجاعنا إلى مربّع الوصاية الأوّل ودائرة المستعمر الذي يلهف ثرواتنا ويستغلّ مقدّراتنا أبشع استغلال بعد أن غاظه أن يترك العرب يتصرفون فيها وينتفعون بمواردها.
كلّ الأحداث وما يحفّ بها تكشف بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ “داعش” صنيعة غربيّة صهيونيّة لتنفيذ “سايكس بيكو” الجديدة، ويقول متابعون أنّها من قبيل “طالبان” والقاعدة”، التي عندما قامتا بالأدوار المنوطة بالعهدة من قبل من صنعهما، وموّلهما، وفسح لهما المجال.