الأمّـــهـــات الــعـــازبــات: إحصائيّات مفزعة
تعدّ ظاهرة “الأمهات العازبات” من التّابوهات داخل المجتمع التونسي، الذي لا يزال يرفض في غالبيته العظمى تقبل فكرة أطفال يولدون خارج إطار الزواج، أمّا على الصعيد الرّسمي، فلم يكن هذا الموضوع يطرح إلاّ من زاوية محدّدة ومعروفة، وهو كيفية رعاية الأطفال ولم يطرح أبدا من جانب الأمهات المعنيّات، وكان يطلق على المواليد، الذي يولدون خارج إطار الزواج
ولم يُعترف بهم من قبل آبائهم اسم “أطفال بورقيبة” نسبة إلى الرئيس الأسبق الرّاحل الحبيب بورقيبة، الذي كان أحدث دورا لرعاية هؤلاء الأطفال.
وتكشف مختلف الأرقام الصادرة عن الجهات الرسمية أن غالبية هذه الولادات تسجل لدى فتيات عازبات تتراوح أعمارهن بين 15 و24 سنة، ويلاحظ أن المستويات التعليمية للأمهات العازبات، تتراوح بين الأمية التامة أو لا تكاد تتجاوز المرحلة الابتدائية وفي أفضل الأحول التعليم الثانوي، كما بينّت الدراسات أن تلك الفتيات تنتمين لأوساط اجتماعية ضعيفة اجتماعيّا واقتصاديا وتعليميا.
ولرعاية الأطفال المولودين خارج إطار الزّواج، أحدثت الدّولة آليات عديدة، من ذلك إنشاء دور لرعاية الأطفال ومعهد مختص للإحاطة بهم، فضلا عن تكوين لجان جهوية مكلفة بالبحث لإثبات النسب تدعى إلى الانعقاد كلما كانت هناك ولادة خارج إطار الزواج، وتتكفل هذه اللّجان بالإحاطة بالأم منذ تسجيل حالة الولادة ومرافقتها خلال فترة ما بعد الوضع في مسار تحديد هوية “الأب البيولوجي”.
إحصائيات حديثة مفزعة
تؤكّد الإحصائيات الرّسمية المنشورة في موفّى 2015 أن ما بين 1200 و1600 يولدون سنويا في تونس خارج إطار الزواج أو عن طريق الزواج العرفي، وذلك بمعدّل يتراوح بين 3 و4 مواليد يوميا، وهو ما يزيد من عدد الأمهات العازبات حيث تكشف المعطيات نفسها أن أغلب “الأمّهات العازبات” ينتمين إلى الفئات الهشّة ذلك أن أغلبهن معينات في المنازل أو عاملات في المصانع أو عاطلات عن العمل.
وتقول المؤشرات الرّسمية أن سنّ 33 بالمائة من “الأمهات العازبات” يتراوح بين 20 و24 سنة، وأن سنّ 27 بالمائة منهنّ يتراوح بين 15 و19 سنة، وأن أغلب الفتيات اللاتي يحملن نتيجة التحيّل أو الاغتصاب “أمّيات”، ولا يتفطنّ حتى إلى الحمل إلا في مرحلة متأخرة، مما يدفع بهنّ إلى الإجهاض، وذلك بسبب افتقارهن إلى الخبرة والمستوى التعليمي الجيد، مما ينتج عنه سهولة التّغرير بهنّ واستغلالهنّ نظرا لسذاجتهنّ ومحدودية مداخيلهنّ.
كما أثبتت الإحصائيات أنّ 46 بالمائة من “الأمّهات العازبات” من ذوات المستوى التعليمي الابتدائي، وأنّ لـ 35 بالمائة منهنّ مستوى تعليميا ثانويا، في حين أن 3 بالمائة منهنّ لهنّ تكوينا أكاديميا جامعيا، دون أن ننسى وجود فئة لا بأس بها من الأمهات العازبات، اللواتي يقررن إراديا بأن ينجبن وأن يكن أمهات عازبات، وهي فئة من ذوات الدّخل المحترم، القادرات على رعاية أبنائهنّ، دون أية حاجة للرجل، أو نتيجة رفضهن الالتزام برجل محدّد.
دراسة علميّة مختصّة لعيّنات من ولايات الجمهوريّة خلال 10 سنوات: أسباب الظّاهرة ومعطيات إحصائية شاملة
كشفت دراسة أنجزها الأخصّائي في علم الاجتماع “هشام الحرباوي”، نشرت نتائجها في مارس 2015، أنّ العوامل المنتجة لظاهرة “الأمهات العازبات” تنقسم إلى 4 محاور منها ما هو “ذاتي” وما هو “أسري” وما هو “اجتماعي” و”بيئي” حيث تبرز الدّراسة أنّ الاضطرابات النّفسية وعدم تقدير العواقب واضطرابات المراهقة إلى جانب الحرمان العاطفي تعدّ من أسباب تورّط الفتيات في الإنجاب خارج إطار الزواج.
ويساهم التفكك الاسري والتربية غير السليمة على غرار “الدّلال المفرط” أو “القسوة البالغ فيها” وكذلك عدم قدرة الأبوين على حسن تأطير الأبناء وإشباع حاجياتهم ووجود سلوكيات منحرفة داخل الأسرة في نمو ظاهرة الإنجاب خارج إطار الزواج، اضافة إلى أنّ الفقر وضعف الامكانيات المادية التي تدفع باتجاه التشغيل المبكر للأطفال في قطاعات هشة مثل معينة منزلية والنزوح وصعوبة الاندماج في المحيط الجديد تعبر جميعها من العوامل المؤديّة إلى تزايد الظاهرة.
وشملت الدّراسة، المشار إليها، عيّنة من الأمهات العازبات في القيروان (حوالي 89 بالمائة من العينة) وأمهات عازبات وافدات من ولايات اخرى (حوالي 11 بالمائة) وذلك بالاعتماد على البيانات المسجلة حول الظّاهرة من سنة 1998، تاريخ احداث لجنة اثبات الابوة (21 نوفمبر 1998)، الى غاية سنة 2010.
خلال الفترة المذكورة رصد “الباحث” “56 حالة إنجاب خارج إطار الزواج سنويا في القيروان” أي بمعدل حالة ولادة غير شرعية أسبوعيا، ويقول الباحث في دراسته “في غياب مؤشرات اقتصادية واجتماعية تفسّر بعمق المد والجزر في نسب حالات الأمهات المنجبات خارج إطار الزواج المسجلة فانه لا يمكن الجزم بدقة حول الأسباب المباشرة وغير المباشرة لذلك عدا أنه يلاحظ تراجعا ملحوظا يصل الى أقل من النّصف سنة 2010 مقارنة بسنة 1999 أي خلال عشر سنوات”.
وتذكر الدّراسة أنّ أغلب الأمهات العازبات من الوسط الريفي ومن الفئة العمرية دون 20 سنة (بنسبة 23 بالمائة) أي مراهقات وقاصرات، وتذكر أيضا أنّ 98 بالمائة من الأمّهات المنجبات خارج إطار الزواج حالتهنّ الصحية سليمة وأن نسبة الإعاقة لدى الام العازبة والأب البيولوجي كانت ضئيلة ولا تتجاوز 1.2 بالمائة لكليهما.
وتضيف الدراسة أنّ المنجبات خارج إطار الزواج، هنّ أميات (45 بالمائة) وذات مستوى تعليم ابتدائي (36 بالمائة) وإعدادي (8 بالمائة) وثانوي (9 بالمائة وعالي (3 بالمائة)، وهنّ أيضا عاطلات (82 بالمائة) وتلميذات وطالبات وعاملات في القطاع الخدماتي (6 بالمائة) وعاملات في القطاع الصناعي (3 بالمائة) وفي القطاع الفلاحي (2 بالمائة) وعاملات للحساب الخاص (1 بالمائة)، كما أنّ حوالي 4.5 بالمائة من الأمّهات العازبات ينجبن مرة ثانية وفق الطّريقة نفسها.
وأقرّ “الباحث” بمحدودية البرامج الاجتماعية الموجهة لهذه الفئة كما اشار الى ان الحراك المكاني المستمر للأمهات العازبات قلّص من فاعلية التّدخل الاجتماعي والمتابعة لفائدتهن هذا بالإضافة الى غياب تدخل الجمعيات في جهة القيروان لفائدتهن بالتوازي مع التدخل المؤسساتي وعدم فاعلية برامج الوقاية العامة والخاصة في مواجهة هذه الظاهرة وعدم وجود منظومة موارد للتّدخل في الوضعيات المستعجلة.
من منظور القانون: “أمّ… بلا حقوق كاملة
لئن منع التشريع التونسي الأم العزباء من مطالبة “الأب” بالزواج بها، أو حتى الإنفاق عليها، (الاستثناء الوحيد هو أن تكون الفتاة قاصرا، إذ أنه بمجرد مواقعتها، يكون على من واقعها أن يتزوجها، أو أن يزجّ به في السّجن)، فإنه حمى الطفل المولود خارج إطار الزواج، بمجرد إثبات نسبه، سواء بإقرار الأب، أو عن طريق ثبوت الأبوة قضائيا، أي بعد القيام بالتحليل الجيني.
ولا يعترف القانون التونسي بوضع خاص للأم العزباء إذ تنعدم الحقوق الذاتية لعدم قيام علاقة قانونية ملزمة بالزواج الشرعي وفي هذا الشأن ينص الفصل 227 مكرر من المجلة الجنائية التونسية على أن “الحمل والمعاشرة لا يولّدان حق الأمّ العزباء في مطالبة الأب بالزواج بها”. ليبقى الحق الوحيد والمكفول قانونيا هو إمكانية قيام هذه الأم العزباء بدعوى قضائية على الأب البيولوجي للمطالبة بنفقة لطفلها القاصر، وتبقى هذه الأم وبقطع النظر عما اقترفته من خطيئة مؤهلة اجتماعيا لرعاية الطفل.
وقد أقرّ الفصل الأول من القانون المؤرخ في 28 أكتوبر 1998 كما تم تعديله بمقتضى قانون 7 جويلية 2003 والمتعلق بإسناد لقب عائلي للأطفال المهملين أو مجهولي النسب، منح المولود الحق في النفقة والرّعاية من ولاية وحضانة ما لم يبلغ سن الرشد أو بعده في الحالات المخولة قانونا، كما يمكن للأم أن تطالب بالترفيع من نفقة ابنها. وقد جرت القاعدة القانونية والفقهية على اعتبار أن الأبوّة البيولوجية ترتب آثارا قانونية ثابتة لا يمكن المساس بها كالحقّ في النسب والحق في النفقة والرعاية لكن القصور يكمن في حرمان الطفل المولود خارج الرابطة الزوجية أو خارج الفراش الطبيعي من الإرث.
مبادرات المجتمع المدني
يساعد عدد من الجمعيات على الإحاطة بالأمهات العازبات ما قبل الوضع وما بعده إلى جانب العناية بالأطفال مجهولي النسب، على غرار جمعية “السبيل للأم والطفل”، وعن عمل هذه الجمعية تقول رئيستها منيرة الكعبي: “الجمعيات تعاضد جهود الدولة في الإحاطة بالأم العزباء وبصغيرها المولود خارج الإطار الرسمي للزواج”.
واستنادا إلى ما تفاصيل ومعطيات رقميّة نشرتها “جمعيّة السبيل”، فإنّ الجمعيّة تقوم برعاية 250 امرأة وطفل، وذلك عبر توفير مستلزمات الأطفال وتيسير استقرار الأمهات داخل أسرهم أو خارجها لدى عائلات أخرى، كما توفر الجمعية إعانات مدرسية وعينية بمناسبة الأعياد، وتؤكد السيدة “الكعبي” أن توعية الأمهات العازبات بحقوقهن والأخذ بأيديهن ما قبل الوضع وما بعده وإعدادهن نفسيا لمجابهة المجتمع الرافض قطعا لهذه الظاهرة يبقى العمل الأساسي الذي تقوم به الجمعية.
وتقول “منيرة الكعبي” إن “مساعدة الدولة للجمعية ودعم جمعيات لها من الخارج يساهم في الإيفاء بالتزامات الجمعية تجاه الأمهات اللواتي يطلبن مساعدتها، وترافق الجمعية الأم العزباء لتسوية وضعية الطفل القانونية ومنحه لقبا عائليا وتعمل على تحميل الأب الطبيعي لمسؤوليته القانونية والاجتماعية”.
وترى رئيسة “جمعية السبيل” أن التدخل الجمعياتي هام للإحاطة بالأمهات العازبات، وتؤكد أن التوعية يجب أن تتم داخل المعاهد والجامعات وأماكن العمل، وتضيف أن معالجة هذا الموضوع تبقى رهينة وعي اجتماعي بحجم هذه الظاهرة ومعالجتها بشكل واقعي لتتحمل مؤسسات الدولة وهياكلها الاجتماعية جزء من المسؤولية ومؤسسات المجتمع المدني الجزء الآخر.
وتقول الناشطة في المجتمع المدني إن “التثقيف الجنسي للمراهقات في المدارس والمعاهد، وإعادة الاعتبار لمؤسسة الأسرة ومساعدة الشباب على الزواج المبكر وتقنين العمل لفتيات الأرياف والأوساط الضعيفة، كفيل بالمساهمة في الحد من تفشي هذه الظاهرة الاجتماعية”.
بالمحصلة، “الأمهات العازبات” لم يعد الإشكال فيما إذا كنّ ضحايا أم مذنبات ولكن السّؤال عن الحلول لهذا الإشكال المعقّد بالرجوع إلى أنّ نظرة المجتمع لهنّ “اتّهام، أمّهات مغيّبات اجتماعياً، وأطفال يعيشون التهميش في ظلّ مجتمع تكتسحه العادات والتقاليد، ممّا حول حياتهم مع أمهاتهم الى واقع مرير، يواجهونه يوميا، ومما زاد الطين بلّة التدخلات غير المجدية من الجهات الرسميّة لمساعدة هذه الشريحة كأفضل ما يكون.