أرقام مفزعة لحالات الإنتحار: العوامل النفسيّة والإجتماعيّة أبرز الدّوافع
تفشّت حوادث الانتحار في تونس بعد ثورة 14 جانفي 2011 إلى درجة أنها أصبحت خطرا محدقا يتهدد المجتمع بكامل شرائحه وفئاته، خاصة بعدما انتشرت هذه الظاهرة في صفوف الأطفال الصغار الذين بات إقدامهم على اتخاذ مثل هذه الخطوة لوضع حد لحياتهم ينبئ بخلل نفسي وأخلاقي واجتماعي أمسى من الضّروري التعجيل بمعالجته والإسراع في تطويقه.
وقد أوردت مصادر مختصّة في تعداد حالات الانتحار المسجّلة بالبلاد مؤشرات رقميّة تظهر أنّ تونس شهدت خلال كلّ من سنتي 2014 و2015 ما يناهز 203 حالات انتحار، ومحاولات انتحار، في كلّ عام، أي بمعدل 17 حالة شهريا، وقد تصدّرت الشّريحة العمرية بين “26 و35 سنة” حالات الانتحار بـ 60 حالة فيما وصلت عند الأطفال إلى حدود 18 حالة من بينها 12 تخصّ الفتيات.
وهي أرقام يدعمها ويثبتها ما ورد في مضمون تقرير “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” حول التّحركات الاجتماعية الاحتجاجية في ما يتعلق بتنامي ظاهرة الانتحار خلال التسعة أشهر الأخيرة من سنة 2014 والذي سجل 122 حالة انتحار من بين المنتحرين تلاميذ وأطفال، وهو الأمر الذي بثّ الريبة والهلع في الشّارع التونسي عموما، وجاء في الإحصائيّات التي قدّمها تقرير المنتدى أنّ “ولاية القيروان” حلّت في المرتبة الأولى وطنيا من حيث عدد حالات الانتحار بـ 31 حالة تليها “تونس العاصمة” بـ 28 حالة.
ويذكر أنّ تقرير أعدته منظمة الصحة العالمية، مؤخرا حول ظاهرة الانتحار، كشف احتلال تونس المرتبة السّادسة عربيا سنة 2014 بمعدل 2.4 حالة انتحار لكل 100 ألف شخص.
“القيروان” على رأس القائمة
استنادا إلى المعطيات التي نشرها “المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” تصدّرت ولاية القيروان نسب الانتحار في كامل بواقع 31 حالة من جملة 203 تم تسجيلها بكامل مناطق البلاد خلال سنة 2014، وحسب المصدر نفسه سجّلت البلاد في شهر ديسمبر من العام نفسه 27 حالة انتحار فيما تمّ رصد 23 حالة في شهر أوت حيث تركّزت أساسا بجهات “العلا”، “الوسلاتيّة”، حفّوز” و”بوحجلة”.
ووفق المؤشرات التي تضمّنها التّقرير أنّ منطقة “العلا” سجّلت لوحدها، في الفترة الممتدّة بين شهري أفريل وديسمبر 2014، زهاء 15 حالة انتحار شملت الفئات العمريّة ما بين 9 و75 من التلاميذ والعاطلين والمزارعين والتجّار والموظفين، وقد رصدت النسبة الأعلى من الحالات في صفوف تلاميذ المدارس والمنقطعين عن الدّراسة في الصّفوف، وللعلم فإنّ “العلا” تتصدّر أسفل التّرتيب التنموي على السّلم الوطني، وهو المستوى 260 من جملة 264 حيث أبرز التّقرير أنّ القاسم المشترك للمقدمين على الانتحار هو انتماؤهم للمناطق الريفيّة بالولاية التّي يشكّل فيها سكّان الريف نسبة 68 بالمائة من التعداد الجملي لسكّان القيروان الذي تؤكّد الإحصائيّات الرسميّة أنّهم في مستوى الـ 600 ألف ساكن.
وتربط المنظمات الحقوقيّة التّونسيّة بين ارتفاع نسبة الانتحار وتدنّي حظوظ التنمية والظروف الاجتماعية بولاية القيروان التي ما انفكّت بعد الثورة تشهد تحرّكات احتجاجيّة فرديّة وجماعيّة من أجل مطالب التشغيل وتحسين ظروف العيش.
عوامـــل نفـسيّة واجتماعـيّة قاهرة
ذكر المشرف على “المرصد الاجتماعي التونسي”، والمختص في علم الاجتماع، “عبد الستار السحبانى” خلال ندوة صحفية انتظمت بتونس العاصمة في شهر أوت 2015 أن “ارتفاع عدد المقبلين على الانتحار يعكس حالة اليأس والاضطراب النفسي عموما”، وأنّ “شبح الفقر والخصاصة بسبب البطالة المتواصلة والمطوّلة هي الدوافع الأبرز لإقدام فئة واسعة من التّونسيين لا سيما فئة الشباب على الانتحار بشتّى الأشكال”.
وتدعيما لتصريحات “السحباني” ترى أغلب التحليلات أن السبب الرئيسي في تفشّي الانتحار بين العاطلين عن العمل مردّه الافتقار إلى المال، وعدم توفره لسد الحاجة، وبناءً على ذلك يذهب الأطبّاء النفسيين، واختصاصيّو أمراض الأعصاب، إلى التأكيد أنّ تعطيل الطاقة الجسدية بسبب الفراغ، لا سيما بين الشباب الممتلئ طاقة وحيوية ولا يجد المجال لتصريف تلك الطاقة، يؤدي إلى أن ترتد عليه تلك الطاقة لتهدمه نفسياً مسببة له مشاكل كثيرة قد تنتهي بقرار التخلص من الحياة. ومن ثمة فإن العلاقة بين الجانب النفسي من الإنسان، وبين توفر الحاجات المادية، وأثرها في الاستقرار والطمأنينة، وأن الحاجة والفقر يسببان الكآبة والقلق وعدم الاستقرار، وما يستتبع ذلك من مشاكل صحية معقّدة، كأمراض الجهاز الهضمي والسكر، وضغط الدم، وآلام الجسم، كل هذا يفسر إقدام كثير من الشباب على التخلص من الحياة”، وهو ما يسميه البعض من علماء الاجتماع بـ”الانتحار الفوضوي” الذي عادة ما يحصل إبان الأزمات الاقتصادية والاجتماعية، ويكون وليد الانفعال والغضب أو الإحباط الذي يعيشه العاطل عن العمل.
“الأسرة” : بين الإهمال وغياب الحوار
يقول رئيس “جمعية الدفاع عن حقوق الطفل” “معز الشريف” إن “تسجيل حالات انتحار خصوصا لدى الأطفال أمر يدعو إلى الفزع ويعكس مدى فشل الدولة في حماية هذه الشريحة”، معتبرا أنّ “لجوء الأطفال للانتحار يعود إلى عدّة أسباب من أبرزها غياب الحوار بين مكونات الأسرة مع الأطفال الذين يعانون من حالة اكتئاب بالإضافة لغياب الحوار في الوسط المدرسي مع المربي”، حيث يرى “الشريف”، وهو أيضا مختص في طب الأطفال، أنّ آليات الحوار التي تساعد الأطفال على تجاوز صعوباتهم تكاد تكون منعدمة في الوسط العائلي، لا سيما في ظل انتشار الوسائط المتعددة.
ويفسّر الطّبيب المختص في علم النفس “عماد الرقيق” استفحال ظاهرة الانتحار في تونس خاصة في هذه الآونة الأخيرة، بارتباطها بالظروف العائلية الصعبة وغياب التفاهم والآذن الصاغية والاستماع إلى الأبناء وخاصّة من هم في سنّ الأطفال إلى جانب غياب سبل التواصل وفقدان العاطفة والمعاملة الحسنة بين جميع أفراد الأسرة الواحدة.
“المدرسة” في قفص الاتهام
كشف رئيس جمعية الدفاع عن حقوق الطفل “معز الشريف” أن من العوامل التي تقود الأطفال إلى الانتحار “فشل المنظومة التربوية والمربين في الإحاطة بهم”، مؤكدا أن “المدارس لم تعد فضاء للتنشئة والتربية بل أصبحت مجرد مكان تعليم” معتبرا أنّ “تدني دور المربين والمدارس أدى إلى تسجيل أكثر من مائة ألف انقطاع عن التعليم سنويا”، وأضاف أنّ “الدولة لم تقم بأيّة إجراءات مجدية للاهتمام بهؤلاء المنقطعين عن الدراسة”.
كما وجّه الشريف نقدا لاذعا إلى الأساتذة والمربين الذين قال إن “همهم الوحيد أصبح حماية مصالحهم القطاعية عبر شن إضرابات متتالية من أجل زيادة الأجور والمنح. بما يوحي بأن هناك لا مبالاة بالمخاطر المحدقة بالأطفال ومستقبلهم”.
ويشار إلى أنّ بعض مكونات المجتمع المدني ممثلة في المنظمات الحقوقية والمختصة، دعت إلى التحرك العاجل لدراسة ظاهرة الانتحار في صفوف التلاميذ الصغار وتشخيص مظاهرها وتحليل أسبابها من أجل إيجاد الحلول الكفيلة بالتوقّي منها وإنقاذ أبنائنا من الانزلاق فيها، وذلك خاصّة عبر السعي إلى إرساء برنامج وطني لمعالجة مشكل التمدرس وعلاقة التلميذ بالمدرسة والانقطاع المبكر عن التعليم.
“وسائل الإعلام مسؤولة”
حمّل المندوب العام للطفولة “مهيار حمادي” عددا من وسائل الاعلام مسؤولية تفشي ظاهرة الانتحار، مُؤكدا خاتا تصريح صحفي في أوت 2015 أن ارتفاع الحالات المسجلة في تونس خاصة في ولاية القيروان يُعزى الى ما اسماه “التعاطى غير الحرفي لبعض وسائل الاعلام مع مواضيع المتعلقة بالأطفال”.
وقد أجمع المختصون في علم النّفس خلال ملتقى انتظم بمركز تدريب الصحفيين والإتصاليين يوم الأربعاء 11 فيفري 2015 حول “كيفيّة تناول وسائل الإعلام لظاهرة الانتحار”، بالاشتراك بين وزارة الصّحة التونسية ومنظّمة “اليونيسيف” أنّ وسائل الإعلام يمكن أن تساهم في انتشار ظاهرة الانتحار وعليها احترام جملة من الضوابط والتوصيات.
وبيّنت الطبيبة النفسيّة بمستشفى منجي سليم فاطمة الشرفي خطورة عرض بعض حالات الانتحار في عدد من البرامج التلفزيّة مع التّركيز الدقيق في توصيف عمليّات القيام بها إلى جانب عدم الانتباه إلى عديد المفردات المستعملة والتفاصيل المعروضة التي من شأنها أن تدفع إلى مزيد استفحال الظاهرة عبر تقليد أشخاص آخرين للقيام بنفس مراحل عمليّة الانتحار.
واعتبرت الطّبيبة “فاطمة الشرفي” أنّ على الصحفيين التفكير في المتلقّي والمشاهد قبل التّطرق لظاهرة الانتحار والحذر من وقوع أشخاص آخرين في تقليد الضحيّة والسعي إلى المساعدة على الحدّ من هذه الطاهرة خاصّة عبر إبراز الشعور بالندم لبعض من حاولوا الانتحار والمآسي العائليّة التي يخلفها الانتحار.
الانتحار في صفــوف النّـــســـاء
اعتمادا على البحوث التي نشرت في الموضوع، تعتبر النساء عموما والمعنفات والمطلقات والأمهات العازبات خصوصا الفئة الأكثر إقداما على الانتحار إذ تعيش هذه الفئة حالة العزلة داخل أطرها العائلية وتفتقر للحياة الأسرية والعاطفية السليمة مما يبعد عنها شبح الوقوع في آفة الانتحار.
وحسب العديد من الدراسات الحديثة في هذا الشأن فإن عدم الثقة في المستقبل والفراغ، والعنف داخل الأسرة والإدمان على الكحول والمخدرات وفقدان الشريك والمؤازرة العائلية في أوقات الأزمات تؤدي بهذه الفئة من النساء إلى هذا المنعرج المأساوي.
كما أن غياب الأطر الاجتماعية والمؤسساتية التي تهتم بالمرأة ضحية العنف الجسدي أو المعنوي أو الجنسي، عدا بعض الجمعيات، والذي من شأنه أن يحتوي هذه الفئة الاجتماعية ويوجهها ويحيط بها إنسانيا بهدف تجنيبها الوقوع ضحية لهذه الآفة، فإن هذا الغياب سيساهم بالضرورة في وقوعهن فريسة للانتحار.
ويرى بعض الذين بحثوا في هذه المسألة أنّه يمكن قراءة هذا السلوك الانتحاري من خلال رؤيتين: الأولي “اجتماعية” والثانية “قراءة تركيبية للشّخصية”، والاثنتان تكشفان ظهور هذا السلوك عند النساء ضحايا العنف الزوجي والاجتماعي، كما يرى علماء النفس في هذا السياق أن تطور الشخصية لدى هذه الفئة من النساء خاصة وباقي الفئات الاجتماعية الأخرى (ذكورا وإناثا) للتأقلم مع المتطلبات الاجتماعية فيه احتماء ووقاية من مثل هذا السلوك وخصوصا الحالة النفسية والاجتماعية المسببة له.
وهناك شبه إجماع لدى المختصين بأنّ “الانتحار” هو في نهاية المطاف ظاهرة دخيلة وجديدة على المجتمع التونسي، واعتبروها انعكاسا لما أسموه “انحدارا” على مستوى الأخلاق والسلوك، وأنّها “تولّدت أساسا من الكبت الذي عانى منه المجتمع على مدار سنوات طويلة ومن انشغال الوالدين بالعمل عن تربية الأولاد وترك تربيتهم لجهات أخرى، وغياب القدوة الصالحة التي يمكن أن يقتدي بها، والاهتمام المبالغ فيه بالأخبار السلبية والحوادث من قبل وسائل الإعلام”.
وتتواتر أخبار عن وجود اتجاه عامّ لدى الجهات الرسميّة لوضع “سجل وطني للانتحار” يتضمن كافة المعطيات والإحصائيات الدقيقة حول هذه الظاهرة، فضلا عن وضع “استراتيجية وطنية لمقاومة الانتحار”.