العيش من القمامة : 8 آلاف تونسي يعيلون أسرهم من جمع النّفايات
تؤكّد المعطيات المنشورة في موفّى سنة 2015 أنّ كميّات النّفايات المنزليّة والمشابهة في تونس تقدّر بـ 2.5 مليون طنّ سنويّا يتمّ التصرّف في 32 بالمائة منها عن طريق عمليّات الرّسكلة والتّثمين ليصل رقم معاملات هذه “السّوق” إلى حدود 200 مليون دينار، كما تكشف الأرقام أنّ أكثر من 8 آلاف تونسي، يطلق عليهم تسمية “البرباشة”، يعيلون أسرهم من نبش القمامة التي تمثّل مورد رزقهم الأساسي، والذين تراهم يجوبون الشّوارع والأنهج يبحثون داخل حاويات الفضلات عن القوارير البلاستيكيّة وعلب المشروبات المعدنيّة أو البلوريّة أو عن بعض التّجهيزات أو الأدوات المنزليّة التي تحتوي على معادن قابلة للتّحويل.
“البرباشة”: من البلاستيك إلى النّحاس إلى الكرتون
ينشط في هذه “السّوق” أكثر من 8 آلاف شخص يُطلق عليهم تسمية “البرباشة”، هؤلاء تراهم يجوبون الشّوارع والأزقة وهم يبحثون داخل حاويات الفضلات المنزلية عن قارورة بلاستيكية أو علبة مشروبات أو ورق مقوّى (كرتون) أو تجهيزات منزلية تحتوي على معادن قابلة لإعادة التّدوير.
و ازدهرت مهنة “البرباشة” في منتصف تسعينات القرن الماضي، بعدما كانت مقتصرة على المصبّات الكبرى حيث يتجمّع يومياً مئات الأشخاص للبحث عن أشياء ثمينة وأدوات وآلات معطوبة لبيعها في أسواق الخردة حيث يقطع “البرباش” يومياً عشرات الكيلومترات ليجمع نحو 20 كيلوغراماً من المواد القابلة للبيع لدى مؤسسات خاصة يديرها وسطاء، يبيعون بدورهم تلك المواد الآتية من القمامة والقابلة للتحويل الى شركات كبرى تعمل في مجالات البلاستيك والنحاس والزجاج والورق المقوّى وغير ذلك.
ويبيع البرباش كيلوغرام البلاستيك بما يناهز 500 ملّيم ، ليصل سعره بعد “إعادة التدوير” إلى 9 أضعاف قيمته والتي تضاهي 4 دنانير و500 ملّيم، وينسحب هذا الأمر كذلك على مواد أخرى كالنحاس و”الألمينيوم” و”الكرتون”، ويذهب فارق السّعر إلى الوسطاء ومصانع التحويل، وتختلف أسعار تلك المواد من وسيط إلى آخر، ويتأرجح الدّخل اليومي لـ “البرباش” بين 10 و20 دينارا، في حين تدرّ هذه “الصّنعة” ّ على الوسطاء مبالغ هامّة قدّرت مؤشّرات رسميّة أنّها تفوق 65 مليون دينار سنويّا.
وتعتبر فئة المسنّين العاملين في القطاع هم الأكثر تهميشا والأقلّ دخلا بسبب صعوبة تنقلهم لمسافات طويلة والعمل لساعات عديدة وهو ما لا يتماشى مع صحتهم، كما أن تلاميذ المدارس يمارسون هذه المهنة خلال العطل الصيفية حيث تزداد خاصة كميات القوارير المستهلكة.
مصبّ “برج شاكير”: أكبر تجمّع لـ “البرباشة“
على مقربة من العاصمة، وتحديداً في منطقة “برج شاكير”، يقع أكبر مصبّ للنفايات ترمى فيه يومياً أطنان من الفضلات حيث تصل الشّاحنات إلى المصبّ لتفرغ ما بين 2700 إلى 3 آلاف طن من النفايات المختلطة، الأمر الذي عادة ما يثير سخط العديد من المواطنين القاطنين بالجهة خاصّة في ظلّ انتشار خطر الإصابة ببعض الأمراض أو الموت نتيجة التسمّم والروائح المنبعثة من جبال القمامة المكدّسة بصفة دائما في المصبّ.
وفي المقابل يعدّ مصبّ “برج شاكير” مورد رزق للمئات من الأشخاص، من جميع الأعمار، ومن الجنسين، والذين يتوافدون على المكان منذ ساعات الصّباح الأولى، بهدف البحث بين أكوام الفضلات عمّا يمكن بيعه، على غرار بقايا الأطعمة والملابس والمواد البلاستيكية والنحاس وغيرها، وخصوصاً المواد التي يمكن إعادة تدويرها.
منظومة “إيكولف“
دفعت المردودية الاقتصادية للتصرّف في النفايات ورسكلتها الدّولة إلى وضع منظومة لجمع النفايات تعرف بمنظومة “إيكولف” حيث مكّنت المنظومة من إحداث نحو13 ألف فرصة عمل في ميدان تجميع النفايات الزجاجية والمعدنية والبلاستيكية، كما أتاحت إنشاء عشرات المؤسسات الصغرى لحاملي الشهادات العليا، وفي إطار هذه المنظومة أمضت “الوكالة الوطنية للتصرف في النّفايات” اتفاقيات مع 110 مؤسّسات تتولّى رحي ما تتقبله من نفايات بلاستيكية تقوم بعد ذلك بتصديرها بقيمة تفوق 3 ملايين دينار في السنة.
ومكّنت منظومة “إيكولف” من فسح المجال لفتح 318 “نقطة تجميع” منها 117 مؤسّسة أحدثت في إطار منظومة “شابّ” و95 نقطة تجميع أحدثت من قبل حاملي الشهادات العليا، وسمحت هذه المنظومة بتجميع أكثر من 69 ألف طن منذ انطلاق العمل بها، كما ساهمت هذه الآلية في التّخفيض من نزيف العملة الصعبة حيث تستورد تونس ما يفوق 200 ألف طنّ من “حبيبات” البلاستيك، ومن خلال الرّسكلة وجمع النّفايات البلاستيكية أصبحت بلادنا توفّر تقريبا ربع الكمية مع المساهمة في التصدير واتساع رقعة النشاط.
وتهدف هذه المنظومة التي وضعتها الدّولة منذ أكثر من 10 سنوات إلى تقليص كمية النفايات التي يتم دفنها في التربة، وذلك لحماية البيئة من أضرار البلاستيك واستغلال أكبر قدر ممكن منها في إنتاج الطاقة كما يمكن إعادة استخدامها مجددا عبر إعادة رسكلتها.
الدولة تشجّع وشركات “إعادة التدوير” تنتهك القانون
“الاستثمار في البيئة” أو “الاستثمار الاخضر” القائم على رسكلة النفايات انطلق في تونس منذ سنة 2001 حيث شجعت الدولة القطاع الخاص على بعث شركات لرسكلة البلاستيك بما يحقق مجموعة من الأهداف أهمها التشغيل والحفاظ على البيئة.
ومنذ احتضان تونس للمنتدى الدولي للاستثمار والتشغيل في المجال البيئي سنة 2007 سعت الدولة إلى تأطير قطاع جمع الفضلات ورسكلتها من ذلك وضع “قانون سنة 2001 ” تم بمقتضاه إحداث “الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات” لتتولى مهمّة الإشراف على القطاع من خلال إعداد المشاريع وإنجازها وتقديم المساعدة الفنية والمالية للبلديات والصناعيين وتم اعطاؤها صلاحيّة مطلقة في اسناد الرخص للخواص الراغبين في إنشاء شركات جمع ونقل النفايات”.
لكن شيئا فشيئا احتكرت تلك المؤسسات القطاع خاصة وأن القانون وفي إطار التشجيع على الاستثمار في البيئة مكّن هذه الشركات من بعض الاعفاءات الضريبية حيث أن الدولة لا تنتفع من رقم معاملات هذه السّوق الذي يعتبر ضخما وتفوق أرقام معاملاتها 200 مليون دينار سنويّا.
وعلاوة على عمليّة الرسكلة أصبحت هذه الشركات تعمد إلى تصنيع نفايات البلاستيك من خلال قطعه إلى حبيبات يتمّ بيعها فيما بعد قصد تذويبها وإعادة استعمالها واستغلالها في صناعات عديدة كاللفّ والتعليب، وبالرغم من أن قانون سنة 2001 حدّد بدقّة نشاط وضبط بوضوح مسؤولية شركات الرسكلة في نقل وجمع وفرز النفايات فقط لا غير إلاّ أنه وفي غياب المراقبة تسبّب في عديد التجاوزات والعديد من المشاكل البيئيّة وعدم احترام الضوابط القانونية مما جعل من عمليات الرسكلة عنصرا لتلويث البيئة.
انتهاكات صحيّة وبيئية
رغم أن “قانون 2001” حدّد نشاط وضبط مسؤولية الشركات المختصّة بجمع النفايات ونقلها وفرزها، ففي غياب المراقبة وتطبيق القانون تسبّبت تلك المؤسسات في العديد من المشاكل البيئيّة، التي يمكن اعتبارها جريمة حقّ عام لخطورة ممارسات تلك الشركات على المحيط.
وأعطى هذا القانون الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات صلاحية مطلقة في إسناد الرخص إلى الراغبين في إنشاء شركات لجمع النفايات ونقلها، فأصبح البرباشة مضطرّين الى بيع ما يجمعونه لتلك الشركات بمبالغ زهيدة، واللافت أن بعض تلك الشركات حادت عن نشاطها الأصلي لتحوّل مستودعاتها الى ورشات للفرز بل ان العديد منها أصبح مجهزاً بآلات لتقطيع البلاستيك والمعادن وتحويلها الى حبيبات يتمّ بيعها من أجل تذويبها وإعادة استعمالها في صناعات كاللفّ والتّعليب.
ويعتبر بعض المختصّين أن خسارة الدولة مضاعفة باعتبار انتهاك تلك الشركات لقوانين العمل باستغلالها آلاف الأشخاص من دون تمكينهم من حقوقهم المادية والمعنوية، فهي لا تدفع أيّة رسوم على الأرباح، ما يعني أنّ خزينة الدولة لا تنتفع من هذا النشاط التجاري الهام.
فبعد الاستفادة من المواد القابلة لإعادة التدوير، يتم التخلص من بقية النفايات بطريقة عشوائية، إما بإلقائها خارج المكبات البلدية وإما بالإبقاء عليها داخل مستودعات تلك الشركات لمدّة طويلة، فتتحول الى مصادر للأمراض وأوكار للجراثيم، ممّا دفع بآلاف المواطنين القاطنين بالقرب من تلك المستودعات الى ارغام أصحابها على غلقها بعد الثورة.
وتكشف الدراسات المنجزة حديثا في الغرض أنّه إلى حدّ اليوم توجد في المدن الكبرى فضاءات لجمع الفضلات داخل الأحياء السكنية، تنبعث منها الروائح الكريهة، دون تسجيل أيّ تحرّك ملموس من المصالح البلدية أو الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات من أجل وضع حدّ لهذه الانتهاكات.
ويجدر التّذكير أنّ تونس رفعت منذ نحو عشر سنوات، شعار “النّفايات مصدر للثّروات” الذي تسعى من خلاله إلى تطوير سوق العمل وخلق المؤسسات البيئية الصغيرة، ويشترك في تنفيذ هذا البرنامج وزارة البيئة والتنمية المستديمة والهيئات المعنية بالتمويل والتأهيل والتشغيل، وهو ما خلق آلاف فرص العمل في مجالات رفع النفايات وتدويرها وإدارة المساحات الخضراء وتجميل المدن.